المحرر الوجيز، ج ٢، ص : ١٧٧
فأداره على الصخرة فتقورت ودخلت في عنق عوج، وضربه «موسى» فمات، وحكى الطبري أن طول عوج ثمانمائة ذراع، وحكي عن ابن عباس أنه قال لما خر كان جسرا على النيل سنة.
قال القاضي أبو محمد : والنيل ليس في تلك الأقطار وهذا كله ضعيف واللّه أعلم، وحكى الزجاج عن قوم أن «موسى» وهارون لم يكونا في التيه، والعامل في أَرْبَعِينَ يحتمل أن يكون مُحَرَّمَةٌ، أي حرمت عليهم أَرْبَعِينَ سَنَةً ويَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ هذه المدة ثم تفتح عليهم، أدرك ذلك من أدركه ومات قبله من مات. وخطأ أبو إسحاق أن يكون العامل مُحَرَّمَةٌ، وذلك منه تحامل، ويحتمل أن يكون العامل يَتِيهُونَ مضمرا يدل عليه يَتِيهُونَ المتأخر، ويكون قوله إنها محرمة إخبار مستمر تلقوا منه أن المخاطبين لا يدخلونها أبدا، وأنهم مع ذلك «يتيهون في الأرض أربعين سنة» يموت فيها من مات.
قال القاضي أبو محمد : والخطاب على هذا التأويل أصعب موقفا وأحضر يأسا. وروي أن من كان قد جاوز عشرين سنة لم يعش إلى الخروج من التيه، وأن من كان دون العشرين عاشوا.
قال القاضي أبو محمد : كأنه لم يعش المكلفون أشار إلى ذلك الزجاج، والتيه الذهاب في الأرض إلى غير مقصد معلوم، ويروى أن بني إسرائيل كانوا يرحلون بالليل ويسيرون ليلهم أجمع في تحليق ونحوه من التردد وقلة استقامة السير، حتى إذا أصبحوا وجدوا جملتهم في الموضع الذي كانوا فيه أول الليل، قال مجاهد وغيره كانوا يسيرون النهار أحيانا والليل أحيانا فيمسون حيث أصبحوا ويصبحون حيث أمسوا، وذلك في مقدار ستة فراسخ.
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون تيههم بافتراق الكلمة وقلة اجتماع الرأي، وإن اللّه تعالى رماهم بالاختلاف وعلموا أنها قد حرمت عليهم «أربعين سنة». فتفرقت منازلهم في ذلك الفحص وأقاموا ينتقلون من موضع إلى موضع على غير نظام واجتماع، حتى كملت هذه المدة وأذن اللّه بخروجهم وهذا تيه ممكن محتمل على عرف البشر. والآخر الذي ذكر مجاهد إنما هو خرق عادة وعجب من قدرة اللّه تعالى، وفي ذلك التيه ظلل عليهم الغمام ورزقوا المن والسلوى إلى غير ذلك مما روي من ملابسهم، وقد مضى ذلك في سورة البقرة، وقوله تعالى : فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ معناه فلا تحزن يقال أسي : الرجل يأسى أسى إذا حزن ومنه قول امرئ القيس :
وقوفا بها صحبي عليّ مطيهم يقولون لا تهلك أسىّ وتجمل
ومنه قول متمم بن نويرة :
فقلت لهم إن الأسى يبعث الأسى دعوني فهذا كله قبر مالك
والخطاب بهذه الآية لموسى عليه السلام، قال ابن عباس ندم «موسى» على دعائه على قومه وحزن عليهم، فقال له اللّه : فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ. وقال قوم من المفسرين الخطاب بهذه الألفاظ لمحمد صلى اللّه عليه وسلم ويراد ب الْفاسِقِينَ معاصروه، أي هذه أفعال أسلافهم فلا تحزن أنت بسبب أفعالهم الخبيثة معك وردهم عليك، فإنها سجية خبيثة موروثة عندهم.


الصفحة التالية
Icon