المحرر الوجيز، ج ٢، ص : ١٨٥
قال القاضي أبو محمد : وبقي النفي للمخيف فقط، وقوله تعالى : يُحارِبُونَ اللَّهَ تغليظ جعل ارتكاب نهيه محاربة، وقيل التقدير يحاربون عباد اللّه، ففي الكلام حذف مضاف، وقوله تعالى : وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً تبيين للحرابة أي : ويسعون بحرابتهم، ويحتمل أن يكون المعنى ويسعون فسادا منضافا إلى الحرابة، والرابط إلى هذه الحدود إنما هو الحرابة، وقرأ الجمهور «يقتّلوا، يصلّبوا، تقطّع» بالتثقيل في هذه الأفعال للمبالغة والتكثير، والتكثير هنا إنما هو من جهة عدد الذين يوقع بهم كالتذبيح في بني إسرائيل في قراءة من ثقل يُذَبِّحُونَ وقرأ الحسن ومجاهد وابن محيصن «يقتلوا، ويصلبوا، تقطع» بالتخفيف في الأفعال الثلاثة، وأما قتل المحارب فبالسيف ضربة العنق، وأما صلبه فجمهور من العلماء على أنه يقتل ثم يصلب نكالا لغيره، وهذا قول الشافعي، وجمهور من العلماء على أنه يصلب حيا ويقتل بالطعن على الخشبة، وروي هذا عن مالك وهو الأظهر من الآية وهو الأنكى في النكال، وأما القطع فاليد اليمنى من الرسغ والرجل الشمال من المفصل، وروي عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أنه كان يقطع اليد من الأصابع ويبقي الكف والرجل من نصف القدم ويبقي العقب واختلف العلماء في النفي فقال السدي : هو أن يطلب أبدا بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه حدّ اللّه ويخرج من دار الإسلام، وروي عن ابن عباس أنه قال : نفيه أن يطلب وقاله أنس بن مالك، وروي ذلك عن الليث ومالك بن أنس غير أن مالكا قال : لا يضطر مسلم إلى دخول دار الشرك، وقال سعيد بن جبير : النفي من دار الإسلام إلى دار الشرك، وقالت طائفة من العلماء منهم عمر بن عبد العزيز : النفي في المحاربين أن ينفوا من بلد إلى غيره مما هو قاص بعيد، وقال الشافعي : ينفيه من عمله، وقال أبو الزناد : كان النفي قديما إلى دهلك وباضع وهما من أقصى اليمن، وقال أبو حنيفة وأصحابه و
جماعة : النفي في المحاربين السجن فذلك إخراجهم من الأرض.
قال القاضي أبو محمد : والظاهر أن الْأَرْضِ في هذه الآية هي أرض النازلة، وقد جنب الناس قديما الأرض التي أصابوا فيها الذنوب ومنه حديث الذي ناء بصدر، نحو الأرض المقدسة، وينبغي للإمام إن كان هذا المحارب المنفي مخوف الجانب يظن أنه يعود إلى حرابة وإفساد أن يسجنه في البلد الذي يغرب إليه، وإن كان غير مخوف الجانب ترك مسرحا، وهذا هو صريح مذهب مالك : أن يغرب ويسجن حيث يغرب، وهذا هو الأغلب في أنه مخوف، ورجحه الطبري وهو الراجح لأن نفيه من أرض النازلة أو الإسلام هو نص الآية وسجنه بعد بحسب الخوف منه، فإذا تاب وفهم حاله سرح وقوله تعالى : ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ إشارة إلى هذه الحدود التي توقع بهم، وغلظ اللّه الوعيد في ذنب الحرابة بأن أخبر أن لهم في الآخرة عذابا عظيما مع العقوبة في الدنيا، وهذا خارج عن المعاصي الذي في حديث عبادة بن الصامت في قول النبي صلى اللّه عليه وسلم، فمن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو له كفارة.
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون الخزي لمن عوقب، وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا، ويجرى هذا الذنب مجرى غيره، وهذا الوعيد مشروط الإنفاذ بالمشيئة، اما أن الخوف يغلب عليهم بحسب الوعيد وعظم الذنب، والخزي في هذه الآية الفضيحة والذل والمقت.
وقوله تعالى : إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ استثنى عز وجل التائب قبل أن يقدر عليه