المحرر الوجيز، ج ٢، ص : ١٩٣
ثم قال تعالى لنبيه على جهة قطع الرجاء فيهم وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي لا تتبع نفسك أمرهم، والفتنة هنا المحنة بالكفر والتعذيب في الآخرة، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم الذين سبق لهم في علم اللّه ألا «يطهر قلوبكم» وأن يكونوا مدنسين بالكفر، ثم قرر تعالى لهم «الخزي في الدنيا». والمعنى بالذلة والمسكنة التي انضربت عليهم في أقطار الأرض وفي كل أمة، وقرر لهم العذاب في الآخرة بكفرهم.
قوله عز وجل :
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤)
وقوله : سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ إن كان الأول في بني إسرائيل فهذا تكرار تأكيد ومبالغة، وإن كان الأول في المنافقين فهذا خبر أيضا عن بني إسرائيل وقوله تعالى : أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فعالون مبالغة بناء أي يتكرر أكلهم له ويكثر. و«السحت» كل ما لا يحل كسبه من المال. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة «السحت» ساكنة الحاء خفيفة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي «السحت» مضمومة الحاء مثقلة. وروي عن خارجة بن مصعب عن نافع «السّحت» بكسر السين وسكون الحاء واللفظة مأخوذة من قولهم سحت وأسحت إذا استأصل وأذهب فمن الثلاثي قوله تعالى : فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ [طه : ٦١] ومن الرباعي قول الفرزدق :
إلا مسحتا أو مجلف
والسّحت والسّحت بضم السين وتخفيف الحاء وتثقيلها لغتان في اسم الشيء المسحوت، والسحت بفتح السين وسكون الحاء المصدر، سمي به المسحوت كما سمي المصيد صيدا في قوله عز وجل لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة : ٩٥] وكما سمي المرهون رهنا، وهذا كثير.
قال القاضي أبو محمد : فسمي المال الحرام سحتا لأنه يذهب وتستأصله النوب، كما قال عليه السلام «من جمع مالا من تهاوش أذهبه اللّه في نهابير»، وقال مكي سمي المال الحرام سحتا لأنه يذهب من حيث يسحت الطاعات أي يذهب بها قليل قليلا، وقال المهدوي من حيث يسحت أديانهم.
قال القاضي أبو محمد : وهذا مردود لأن السيئات لا تحبط الحسنات اللهم إلا أن يقدر أنه يشغل عن الطاعات فهو سحتها من حيث لا تعمل، وأما طاعة حاصلة فلا يقال هذا فيها، وقال المهدوي سمي أجر الحجام سحتا لأنه يسحت مروءة آخذه.
قال القاضي أبو محمد : وهذا أشبه، أصل السحت كلب الجوع، يقال فلان مسحوت المعدة إذا كان لا يلفى أبدا إلا جائعا يذهب ما في معدته، فكان الذي يرتشي به من الشره ما بالجائع أبدا لا يشبع.
قال القاضي أبو محمد : وذلك بأن الرشوة تنسحت، فالمعنى هو كما قدمناه، وفي عبارة الطبري بعض اضطراب لأن مسحوت المعدة هو مأخوذ من الاستئصال والذهاب، وليس كلب الغرث أصلا للسحت، والسحت الذي عني أن اليهود يأكلونه هو الرشا في الأحكام والأوقاف التي تؤكل ويرفد أكلها بقول الأباطيل وخدع العامة ونحو هذا، وقال أبو هريرة وعلي بن أبي طالب : مهر البغي سحت وعسب الفحل سحت وكسب الحجام سحت وثمن الكلب والخمر سحت، وقال ابن مسعود السحت أن يهدي لك من قد أعنته في حاجته أو حقه فتقبل، قيل لعبد اللّه ما كنا نعد السحت إلا الرشوة في الحكم قال : ذلك الكفر،


الصفحة التالية
Icon