المحرر الوجيز، ج ٢، ص : ١٩٧
عامل، ويحتمل أن تكون الواو عاطفة على المعنى لأن معنى قوله : وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ قلنا لهم النفس بالنفس، ومثله لما كان المعنى في قوله تعالى : يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [الصافات : ٤٥] يمنحون كأسا من معين عطف وحورا عينا على ذلك، ويحتمل أن يعطف قوله وَالْعَيْنَ على الذكر المستتر في الطرق الذي هو الخبر وإن لم يؤكد المعطوف عليه بالضمير المنفصل كما أكد في قوله تعالى : إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف : ٢٧] وقد جاء مثله غير مؤكد في قوله تعالى : ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا [الأنعام : ١٤٨].
قال القاضي أبو محمد : ولسيبويه رحمه اللّه في هذه الآية أن العطف ساغ دون توكيد بضمير منفصل لأن الكلام طال ب لا في قوله : وَلا آباؤُنا فكانت لا عوضا من التوكيد كما طال الكلام في قولهم حضر القاضي اليوم امرأة، قال أبو علي : وهذا إنما يستقيم أن يكون عوضا إذا وقع قبل حرف العطف فهناك يكون عوضا من الضمير الواقع قبل حرف العطف، فأما إذا وقع بعد حرف العطف فلا يسد مسد الضمير، ألا ترى أنك قلت حضر امرأة القاضي اليوم لم يغن طول الكلام في غير الموضع الذي ينبغي أن يقع فيه.
قال القاضي أبو محمد : وكلام سيبويه متجه على النظر النحوي وإن كان الطول قبل حرف العطف أتم فإنه بعد حرف العطف مؤثر لا سيما في هذه الآية، لأن لا ربطت المعنى إذ قد تقدمها نفي ونفت هي أيضا عن الآباء فتمكن العطف، قال أبو علي ومن رفع «و الجروح قصاص» فقطعه مما قبله فإن ذلك يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي احتملها رفع والعين، ويجوز أن يستأنف والجروح ليس على أنه مما كتب عليهم في التوراة، لكن على استئناف إيجاب وابتداء شريعة. ويقوي أنه من المكتوب عليهم نصب من نصبه. وروى أنس بن مالك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قرأ «أن النفس بالنفس» بتخفيف «أن» ورفع «النفس» ثم رفع ما بعدها إلى آخر الآية. وقرأ أبيّ بن كعب بنصب «النفس» وما بعدها ثم قرأ :«و أن الجروح قصاص» بزيادة «أن» الخفيفة ورفع «الجروح».
ومعنى هذه الآية الخبر بأن اللّه تعالى كتب فرضا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا فيجب في ذلك أخذ نفسه ثم هذه الأعضاء المذكورة كذلك ثم استمر هذا الحكم في هذه الأمة بما علم من شرع النبي صلى اللّه عليه وسلم وأحكامه. ومضى عليه إجماع الناس، وذهب قوم من العلماء إلى تعميم قوله :
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ فقتلوا الحر بالعبد والمسلم بالذمي، والجمهور على أنه عموم يراد به الخصوص في المتماثلين. وهذا مذهب مالك وفيه الحديث عن النبي صلى اللّه عليه وسلم :«لا يقتل مسلم بكافر» وقال ابن عباس رضي اللّه عنه : رخص اللّه لهذه الأمة ووسع عليها بالدية ولم يجعل لبني إسرائيل دية فيما نزل على موسى وكتب عليهم.
قال القاضي أبو محمد : وفي هذه الآية بيان لفساد فعل بني إسرائيل في تعزر بعضهم على بعض وكون بني النضير على الضعف في الدية من بني قريظة أو على أن لا يقاد بينهم بل يقنع بالدية، ففضحهم اللّه تعالى بهذه الآية وأعلم أنهم خالفوا كتابهم، وحكى الطبري عن ابن عباس : كان بين حيين من الأنصار قتال فصارت بينهم قتلى وكان لأحدهما طول على الآخر فجاء النبي صلى اللّه عليه وسلم فجعل الحر بالحر والعبد بالعبد. قال الثوري : وبلغني عن ابن عباس أنه قال ثم نسختها النَّفْسَ بِالنَّفْسِ.


الصفحة التالية
Icon