المحرر الوجيز، ج ٢، ص : ٢٠٩
قال القاضي أبو محمد رضي اللّه عنه : وقال مجاهد : نزلت الآية في علي بن أبي طالب تصدق وهو راكع، وفي هذا القول نظر، والصحيح ما قدمناه من تأويل الجمهور، وقد قيل لأبي جعفر نزلت هذه الآية في علي، فقال علي من المؤمنين، والواو على هذا القول في قوله وَهُمْ واوا الحال، وقال قوم نزلت الآية من أولها بسبب عبادة بن الصامت وتبريه من بني قينقاع، وقال ابن الكلبي نزلت بسبب قوم أسلموا من أهل الكتاب فجاؤوا فقالوا يا رسول اللّه بيوتنا بعيدة ولا متحدث لنا إلا مسجدك وقد أقسم قومنا أن لا يخالطونا ولا يوالونا، فنزلت الآية مؤنسة لهم.
ثم أخبر تعالى أن من يتول اللّه ورسوله والمؤمنين فإنه غالب كل من ناوأه، وجاءت العبارة عامة فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ اختصارا لأن المتولي هو من حزب اللّه، وحزب اللّه غالب، فهذا الذي تولى اللّه ورسوله والمؤمنين غالب، ومَنْ يراد بها الجنس لا مفرد بعينه، و«الحزب» الصاغية والمنتمون إلى صاحب الحزب والمعاونون فيما يحزب، ومنه قول عائشة في حمنة : وكانت تحارب في أمر الإفك فهلكت فيمن هلك، ثم نهى اللّه تعالى المؤمنين عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، فوسمهم بوسم يحمل النفوس على تجنبهم، وذلك اتخاذهم دين المؤمنين هُزُواً وَلَعِباً والهزء السخرية والازدراء ويقرأ «هزؤا» بضم الزاي والهمز، و«هزؤا» بسكون الزاي والهمز ويوقف عليه هزا بتشديد الزاي المفتوحة، و«هزوا» بضم الزاي وتنوين الواو، و«هزا» بزاي مفتوحة منونة، ثم بين تعالى جنس هؤلاء أنهم من أهل الكتاب اليهود والنصارى، واختلف القراء في إعراب الْكُفَّارَ فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة :«و الكفار» نصبا، وقرأ أبو عمرو والكسائي «و الكفار» خفضا، وروى حسين الجعفي عن أبي عمرو النصب، قال أبو علي : حجة من قرأ بالخفض حمل الكلام على أقرب العاملين وهي لغة التنزيل.
قال القاضي أبو محمد : ويدخل «الكفار» على قراءة الخفض فيمن اتخذ دين المؤمنين هزؤا، وقد ثبت استهزاء الكفار في قوله : إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر : ٩٥] وثبت استهزاء أهل الكتاب في لفظ هذه الآية، وثبت استهزاء المنافقين في قولهم لشياطينهم إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة : ١٤]، ومن قرأ «الكفار» بالنصب حمل على الفعل الذي هو لا تَتَّخِذُوا، ويخرج الكفار من أن يتضمن لفظ هذه الآية استهزاءهم، وقرأ أبيّ بن كعب «و من الكفار» بزيادة «من» فهذه تؤيد قراءة الخفض، وكذلك في قراءة ابن مسعود «من قبلكم من الذي أشركوا»، وفرقت الآية بين الكفار وبين الذين أوتوا الكتاب من حيث الغلب في اسم الكفار أن يقع على المشركين باللّه إشراك عبادة أوثان، لأنهم أبعد شأوا في الكفر، وقد قال تعالى :
جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التوبة : ٧٣] ففرق بينهم إرادة البيان والجمع كفار وكان هذا لأن عباد الأوثان هم كفار من كل جهة، وهذه الفرق تلحق بهم في حكم الكفر وتخالفهم في رتب، فأهل الكتاب يؤمنون باللّه وببعض الأنبياء، والمنافقون بألسنتهم، ثم أمر تعالى بتقواه ونبه النفوس بقوله : إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي حق مؤمنين.
قوله عز وجل :
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠)