المحرر الوجيز، ج ٢، ص : ٢١٧
هذه الآية تحتمل أن يراد بها معاصر ومحمد صلى اللّه عليه وسلم، والأظهر أنه يراد بها الأسلاف والمعاصرون داخلون في هذه الأحوال بالمعنى، والغرض الإخبار عن أولئك الذين أطفأ اللّه نيرانهم وأذلهم بمعاصيهم لو آمنوا باللّه وكتابه واتقوا في امتثال أوامره ونواهيه لكفرت سيئاتهم أي سترت وأذهبت ولأدخلوا الجنة.
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ أي أظهروا أحكامها فهي كإقامة السوق وإقامة الصلاة، وذلك كله تشبيه بالقائم من الناس، إذ هي أظهر هيئات المرء، وقوله تعالى : وَالْإِنْجِيلَ يقتضي دخول النصارى في لفظ أَهْلَ الْكِتابِ في هذه الآية، وقوله تعالى : وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ معناه من وحي وسنن على ألسنة الأنبياء، واختلف المفسرون في معنى مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي : المعنى لأعطتهم السماء مطرها وبركتها والأرض نباتها بفضل اللّه تعالى. وحكى الطبري والزجّاج وغيرهما أن الكلام استعارة ومبالغة في التوسعة كما يقال فلان قد عمه الخير من قرنه إلى قدمه، وذكر النقاش أن المعنى : لأكلوا من فوقهم أي من رزق الجنة ومن تحت أرجلهم من رزق الدنيا، إذ هو من نبات الأرض. قوله تعالى مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ معناه : معتدلة، والقصد والاقتصاد : الاعتدال والرفق والتوسط الحسن في الأقوال والأفعال، قال الطبري : معنى الآية أن من بني إسرائيل من هو مقتصد في عيسى عليه السلام يقولون هو عبد اللّه ورسول وروح منه، والأكثر منهم غلا فيه فقال بعضهم هو إله وعلى هذا مشى الروم ومن دخل بأخرة في ملة عيسى عليه السلام، وقال بعضهم وهم الأكثر من بني إسرائيل : هو آدمي لغير رشدة، فكفر الطرفان، وقال مجاهد : المقتصدة مسلمة أهل الكتاب قديما وحديثا.
قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا يتخرج قول الطبري : ولا يقول في عيسى إنه عبد رسول إلا مسلم، وقال ابن زيد : هم أهل طاعة اللّه من أهل الكتاب، وهذا هو المترجح، وقد ذكر الزجّاج أنه يعني بالمقتصدة الطوائف التي لم تناصب الأنبياء مناصبة المتهتكين المجاهرين.
قال القاضي أبو محمد : وإنما يتوجه أن توصف بالاقتصاد بالإضافة إلى المتمردة كما يقال في أبي البختري بن هشام إنه مقتصد بالإضافة إلى أبي جهل بن هشام لعنه اللّه، ثم وصف تعالى الكثير منهم بسوء العمل عموما، وذهب الطبري إلى أن ذلك في تكذيبهم الأنبياء، وكفر اليهود بعيسى والجميع من أهل الكتابين بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وساءَ في هذه الآية هي المتصرفة كما تقول ساء الأمر يسوء، وقد تستعمل ساءَ استعمال نعم وبئس، كقوله عز وجل : ساءَ مَثَلًا [الأعراف : ١٧٧] فتلك غير هذه، يحتاج في هذه التي في قوله ساءَ مَثَلًا من الإضمار والتقدير إلى ما يحتاج في نعم وبئس، وفي هذا نظر.
وقوله تعالى : يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إلى قوله الْقَوْمَ الْكافِرِينَ هذه الآية أمر من اللّه ورسوله بالتبليغ على الاستيفاء والكمال. لأنه قد كان بلغ، فإنما أمر في هذه الآية بأن لا يتوقف عن شيء مخافة أحد، وذلك أن رسالته صلى اللّه عليه وسلم تضمنت الطعن على أنواع الكفرة وبيان فساد


الصفحة التالية
Icon