المحرر الوجيز، ج ٢، ص : ٢٤
وتصح التوبة وإن نقضها التائب في ثاني حال بمعاودة الذنب، فإن التوبة الأولى طاعة قد انقضت وصحت، وهو محتاج بعد موافقة الذنب إلى توبة أخرى مستأنفة، والإيمان للكافر ليس نفس توبته، وإنما توبته ندمه على سالف كفره، وقوله تعالى : عَلَى اللَّهِ فيه حذف مضاف تقديره : على فضل اللّه ورحمته لعباده، وهذا نحو قول النبي صلى اللّه عليه وسلم لمعاذ بن جبل : يا معاذ أتدري ما حق اللّه على العباد؟ قال اللّه ورسوله أعلم، قال : أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ثم سكت قليلا، ثم قال : يا معاذ أتدري ما حق العباد على اللّه؟ قال اللّه ورسوله أعلم، قال : أن يدخلهم الجنة، فهذا كله إنما معناه : ما حقهم على فضل اللّه ورحمته، والعقيدة : أنه لا يجب على اللّه تعالى شيء عقلا، لكن إخباره تعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء سمعا، فمن ذلك تخليد الكفار في النار، ومن ذلك قبول إيمان الكافر، والتوبة لا يجب قبولها على اللّه تعالى عقلا، فأما السمع فظاهره قبول توبة التائب، قال أبو المعالي وغيره : فهذه الظواهر إنما تعطي غلبة ظن لا قطعا على اللّه بقبول التوبة.
قال القاضي أبو محمد : وقد خولف أبو المعالي وغيره في هذا المعنى، فإذا فرضنا رجلا قد تاب توبة نصوحا تامة الشروط، فقول أبي المعالي يغلب على الظن قبول توبته، وقال غيره : يقطع على اللّه تعالى بقبول توبته، كما أخبر عن نفسه عز وجل.
قال القاضي أبو محمد : وكان أبي رحمة اللّه عليه يميل إلى هذا القول ويرجحه، وبه أقول، واللّه تعالى أرحم بعباده من أن ينخرم في هذا التائب المفروض معنى قوله تعالى : وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [الشورى : ٢٥] وقوله : وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ [طه : ٨٢] والسُّوءَ في هذه الآية يعم الكفر والمعاصي، وقوله تعالى : بِجَهالَةٍ معناه : بسفاهة وقلة تحصيل أدى إلى المعصية، وليس المعنى أن تكون «الجهالة» ان ذلك الفعل معصية، لأن المتعمد للذنوب كان يخرج من التوبة، وهذا فاسد إجماعا، وبما ذكرته في «الجهالة» قال أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ذكر ذلك عنهم أبو العالية، وقال قتادة : اجتمع أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم على أن كل معصية فهي بجهالة، عمدا كانت أو جهلا، وقال به ابن عباس ومجاهد والسدي، وروي عن مجاهد والضحاك أنهما قالا :«الجهالة» هنا العمد، وقال عكرمة : أمور الدنيا كلها «جهالة».
قال القاضي أبو محمد : يريد الخاصة بها الخارجة عن طاعة اللّه، وهذا المعنى عندي جار مع قوله تعالى : إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [محمد : ٣٦، الحديد : ٢٠] وقد تأول قوم قول عكرمة بأنه للذين يعملون السوء في الدنيا.
قال القاضي أبو محمد : فكأن «الجهالة» اسم للحياة الدنيا، وهذا عندي ضعيف، وقيل بِجَهالَةٍ، أي لا يعلم كنه العقوبة، وهذا أيضا ضعيف، ذكره ابن فورك ورد عليه، واختلف المتأولون في قوله تعالى :
مِنْ قَرِيبٍ فقال ابن عباس والسدي : معنى ذلك قبل المرض والموت، وقال أبو مجلز ومحمد بن قيس والضحاك وعكرمة وابن زيد وغيرهم : معنى ذلك قبل المعاينة للملائكة والسوق، وأن يغلب المرء على نفسه، وروى أبو قلابة، أن اللّه تعالى لما خلق آدم فرآه إبليس أجوف، ثم جرى له ما جرى ولعن وأنظر،