المحرر الوجيز، ج ٢، ص : ٢٨٣
أعلم بشيء منه علم وإلا لم يتكلم فيه، وقوله تعالى : وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ إما أن يكون متصلا بالكلام ويكون التكذيب في إخبارهم على معنى أن الأمر في نفسه بخلاف ما قصدوا لأنهم قصدوا الكذب، أو يكون التكذيب في التمني على التجوز الذي ذكرناه، وإما أن يكون منقطعا إخبارا مستأنفا عما هم عليه في وقت مخاطبة النبي عليه السلام، والأول أصوب وقوله تعالى : وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الآية، هذا على تأويل الجمهور ابتداء كلام وإخبار عنهم بهذه المقالة، ويحسن مع هذا أن يكون قوله قبل وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ مستأنفا مقطوعا خبرا عن حالهم في الدنيا التي من قولهم فيها إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وغير ذلك، وإِنْ نافية، ومعنى الآية التكذيب بالحشر والعودة إلى اللّه، وقال ابن زيد قوله وَقالُوا معطوف على قوله لَعادُوا أي لَعادُوا لما نهوا عنه من الكفر وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا.
قال القاضي أبو محمد : وتوقيف اللّه لهم في الآية بعدها على البعث والإشارة إليه في قوله : أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ يرد على هذا التأويل وقوله تعالى : وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا الآية، بمعنى ولو ترى إذ وقفوا كما تقدم آنفا من حذف جواب لَوْ وقوله : عَلى رَبِّهِمْ معناه على حكمه وأمره، ففي الكلام ولا بد حذف مضاف، وقوله : هذا إشارة إلى البعث الذي كذبوا به في الدنيا، وبَلى هي التي تقتضي الإقرار بما استفهم عنه منفيا ولا تقتضي نفيه وجحده ونعم تصلح للإقرار به، كما ورد ذلك في قول الأنصار للنبي عليه السلام حين عاتبهم في الحظيرة عقب غزوة حنين وتصلح أيضا نعم لجحده، فلذلك لا تستعمل وأما قول الزجاج وغيره : إنها إنما تقتضي جحده وأنهم لو قالوا نعم عند قوله : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ لكفروا فقول خطأ واللّه المستعان، وقولهم : بلى وربك إيمان، ولكنه حين لا ينفع، وقوله : فَذُوقُوا استعارة بليغة، والمعنى باشروه مباشرة الذائق إذ هي من أشد المباشرات.
قوله عز وجل :
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣١]
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١)
هذا استئناف إخبار عن خسارة المكذبين يتضمن تعظيم المصاب الذي حل بهم، وتستعمل الخسارة في مثل هذا لأنه من أخذ الكفر واتبعه فكأنه قد أعطى الإيمان واطرحه، فأشبهت صفقة أخذ وإعطاء والإشارة بهذه الآية إلى الذين قالوا إنما هي حياتنا الدنيا، وقوله : بِلِقاءِ اللَّهِ معناه : بالرجوع إليه وإلى أحكامه وقدرته، كما تقول لقي فلان أعماله أي لقي عواقبها ومآلها، والسَّاعَةُ يوم القيامة، وأدخل عليها تعريف العهد دون تقدم ذكرها لشهرتها واستقرارها في النفوس وذيعان ذكرها، وأيضا فقد تضمنها قوله تعالى : بِلِقاءِ اللَّهِ وبغتة معناه فجأة، تقول بغتني الأمر أي فجأني ومنه قول الشاعر :
ولكنهم بانوا ولم أخش بغتة وأفظع شيء حين يفجأك البغت
ونصبها على المصدر في موضع الحال كما تقول : قتلته صبرا، ولا يجيز سيبويه القياس عليه ولا تقول جاء فلان سرعة ونحوه، ونداء الحسرة على تعظيم الأمر وتشنيعه، قال سيبويه وكأن الذي ينادي الحسرة أو