المحرر الوجيز، ج ٢، ص : ٣٢٤
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٤]
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤)
هذه حكاية عما يقال لهم بعد قبض أرواحهم، فإما عند خروجها من الأجساد وإما يوم القيامة كل ذلك محتمل، وفُرادى معناه فردا فردا، والألف في آخره ألف تأنيث ومنه قول الشاعر [ابن مقبل ] :
ترى النعرات الزرق تحت لبانه فرادى ومثنى أصعقتها صواهله
وقرأ أبو حيوة «فرادى» منونا على وزن فعال وهي لغة تميم، وفُرادى قيل هو جمع فرد بفتح الراء، وقيل جمع فرد بإسكان الراء والمقصد في الآية توقيف الكفار على انفرادهم وقلة النصير واحتياجهم إلى اللّه عز وجل بفقد الخول والشفعاء، فيكون قوله : كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ تشبيها بالانفراد الأول في وقت الخلقة، ويتوجه معنى آخر وهو أن يتضمن قوله : كَما خَلَقْناكُمْ زيادة معان على الانفراد كأنه قال ولقد جئتمونا فرادى وبأحوال كذا، والإشارة على هذا بقوله كما هي إلى ما قاله النبي عليه السلام في صفة من يحشر أنهم يحشرون حفاة عراة غرلا، وخَوَّلْناكُمْ معناه أعطيناكم، وكان أبو عمرو بن العلاء ينشد بيت زهير :
[الطويل ] :
هنالك إن يستخولوا المال يخولوا وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا
وَراءَ ظُهُورِكُمْ إشارة إلى الدنيا لأنهم يتركون ذلك موجودا.
وقوله تعالى : وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الآية، توقيف على الخطأ في عبادة الأصنام وتعظيمها، قال الطبري : وروي أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث لأنه قال سوف تشفع له اللات والعزى.
قال القاضي أبو محمد : ومن كان من العرب يعتقد أنها تشفع وتقرب إلى اللّه زلفى ويرى شركتها بهذا الوجه فمخاطبته بالآية متمكن وهكذا كان الأكثر، ومن كان منهم لا يقر بإله غيرها فليس هو في هذه الآية، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر، وحمزة «بينكم» بالرفع، وقرأ نافع والكساء «بينكم» بالنصب أما الرفع فعلى وجوه، أولاها أنه الظرف استعمل اسما وأسند إليه الفعل كما قد استعملوه، اسما في قوله تعالى : مِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصّلت : ٥] وكقولهم فيما حكى سيبويه أحمر بن بين العينين، ورجح هذا القول أبو علي الفارسي، والوجه الآخر أن بعض المفسرين منهم الزهراوي والمهدوي وأبو الفتح وسواهم حكوا أن «البين» في اللغة يقال على الافتراق وعلى الوصل فكأنه قال لقد تقطع وصلكم.
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا عندي اعتراض لأن ذلك لم يرو مسموعا عن العرب وإنما انتزع من الآية، والآية محتملة، قال الخليل في العين «و البين» الوصل.
لقوله عز وجل : لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ فعلل سوق اللفظة بالآية، والآية معرضة لغير ذلك، أما إن أبا الفتح قوى أن «البين» الوصل وقال :«و قد أتقن ذلك بعض المحدثين بقوله : قد أنصف البين من البين».
والوجه الثالث من وجوه الرفع أن يكون «البين» على أصله في الفرقة من بان يبين إذا بعد، ويكون في قوله :
تَقَطَّعَ تجوز على نحو ما يقال في الأمر البعيد في المسافة تقطعت الفجاج بين كذا وكذا عبارة عن بعد