المحرر الوجيز، ج ٢، ص : ٣٨١
الأرض خليفة وعلم أنه آدم وإلا فلا طريق له إلى علم أنسال آدم من ألفاظ هذه الآيات.
قال القاضي أبو محمد : ومقصد هذه الآية أن إبليس أخبر عن نفسه أنه يأتي إضلال بني آدم من كل جهة وعلى كل طريق يفسد عليه ما أمكنه من معتقده وينسيه صالح أعمال الآخرة ويغريه بقبيح أعمال الدنيا، فعبر ذلك بألفاظ تقتضي الإحاطة بهم، وفي اللفظ تجوز، وهذا قول جماعة من المفسرين. وقال ابن عباس فيما روي عنه : أراد بقوله مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ الآخرة وَمِنْ خَلْفِهِمْ الدنيا وَعَنْ أَيْمانِهِمْ الحق، وَعَنْ شَمائِلِهِمْ الباطل. وقال ابن عباس أيضا فيما روي عنه : مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ هي الدنيا وَمِنْ خَلْفِهِمْ هي الآخرة وَعَنْ أَيْمانِهِمْ الحسنات وَعَنْ شَمائِلِهِمْ السيئات. وقال مجاهد : من «بين أيديهم وعن أيمانهم» : معناه حيث يبصرون «و من خلفهم وعن شمائلهم» حيث لا يبصرون.
وقوله : وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ خبر أن سعايته تفعل ذلك ظنا منه وتوهما في خلقة آدم حين رأى خلقته من أشياء مختلفة فعلم أنه ستكون لهم شيم تقتضي طاعته كالغل والحسد والشهوات ونحو ذلك، قال ابن عباس وقتادة : إلا أن إبليس لم يقبل أنه يأتي بني آدم من فوقهم ولا جعل اللّه له سبيلا إلى أن يحول بينهم وبين رحمة اللّه وعفوه ومنّه، وما ظنه إبليس صدقه اللّه عز وجل. ومنه قوله : وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ : ٢٠] فجعل أكثر العالم كفرة، ويبينه قول النبي صلى اللّه عليه وسلم في الحديث :«يقول اللّه تعالى يوم القيامة : يا آدم أخرج بعث النار، فيقول : يا رب وما بعث النار؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين وواحد إلى الجنة». ونحوه مما يخص أمة محمد عليه السلام :«ما أنتم في الأمم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود».
قال القاضي أبو محمد : وقوله كالشعرة يحتمل أن يريد شعرة واحدة وهو بعيد لأن تناسب الحديث الأول يرده، ويحتمل أن يريد الشعرة التي هي للجنس، والقصد أن يشبههم بثور أسود قد أنبتت في خلال سواده شعرة بيضاء، ويحتمل أن يريد اللمعة من الشعر الأبيض، وهذا فيه بعد، وشاكِرِينَ معناه مؤمنين لأن ابن آدم لا يشكر نعمة اللّه إلا بأن يؤمن، قاله ابن عباس وغيره.
وقوله تعالى : قالَ اخْرُجْ مِنْها الضمير في مِنْها عائد على الجنة ومَذْؤُماً معناه معيبا يقال ذأمه إذا عابه ومنه الذأم وهو العيب. وفي المثل :«لن تعدم لحسناء ذاما»، أي عيبا، وسهلت فيه الهمزة، ومنه قول قيل حمير : أردت أن تذيمه فمدهته يريد فمدحته، وحكى الطبري أنه يروى هذا البيت :[الطويل ]
صحبتك إذ عيني عليها غشاوة فلمّا انجلت قطعت نفسي أذيمها
قال القاضي أبو محمد : والرواية المشهورة ألومها. ومن الشاهد في اللفظ قول الكميت :[الخفيف ]
وهم الأقربون من كلّ خير وهم الأبعدون من كل ذام
ومن الشاهد في مدحور قول الشاعر :[الوافر]
ودحرت بني الحصيب إلى قديد وقد كانوا ذوي أشر وفخر
وقرأ الزهري وأبو جعفر والأعمش في هذه الآية «مذوما» على التسهيل، ومَدْحُوراً معناه مقصيا


الصفحة التالية
Icon