المحرر الوجيز، ج ٣، ص : ١٣٣
الإعراض عن المعاني، يقول : فأنا لم أسألكم أجرا على ذلك ولا مالا، فيقع منكم قطع بي وتقصير بإرادتي، وإنما أجري على الذي بعثني، وقرأ نافع وأبو عمرو بخلاف عنه :«أجري» بسكون الياء، وقرأ «أجري» بفتح الياء الأعرج وطلحة بن مصرف وعيسى وأبو عمرو، وقال أبو حاتم : هما لغتان، والقراءة بالإسكان في كل القرآن، ثم أخبرهم بأن اللّه أمره بالإسلام والدين الحنيفي الذي هو توحيد اللّه والعمل بطاعته والإعداد للقائه، وقوله فَكَذَّبُوهُ الآية، إخبار من اللّه عز وجل عن حال قوم نوح المكذبين له، وفي ضمن ذلك الإخبار توعد للكفار بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وضرب المثال لهم، أي أنتم بحال هؤلاء من التكذيب فسيكونون بحالهم من النقمة والتعذيب، والْفُلْكِ : السفينة، والمفسرون وأهل الآثار مجمعون على أن سفينة نوح كانت واحدة، والْفُلْكِ لفظ الواحد منه ولفظ الجمع مستو وليس به وقد مضى شرح هذا في الأعراف، وخَلائِفَ حمع خليفة، وقوله فَانْظُرْ مخاطبة للنبي صلى اللّه عليه وسلم يشاركه في معناها جميع الخلق، وفي هذه الآية أنه أغرق جميع من كذب بآيات اللّه التي جاء بها نوح، وهي مقتضية أيضا أنه أنذرهم فكانوا منذرين، فلو كانوا جميع أهل الأرض كما قال بعض الناس لاستوى نوح ومحمد صلى اللّه عليه وسلم في البعث إلى أهل الأرض، ويرد ذلك قول النبي صلى اللّه عليه وسلم :«أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي» الحديث. ويترجح بهذا النظر أن بعثة نوح والغرق إنما كان في أهل صقع لا في أهل جميع الأرض.
قوله عز وجل :
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧٤ الى ٧٥]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥)
الضمير في قوله مِنْ بَعْدِهِ عائد على نوح عليه السلام والضمير في قَوْمِهِمْ عائد على الرسل، ومعنى هذه الآيات كلها ضرب المثل لحاضري محمد صلى اللّه عليه وسلم، أي كما حل بهؤلاء يحل بكم، و«البينات» المعجزات والبراهين الواضحة، والضمير في قوله كانُوا وفي لِيُؤْمِنُوا عائد على قوم الرسل، والضمير في كانُوا عائد على قوم نوح، وهذا قول بعض المتأولين، وقال بعضهم : بل تعود الثلاثة على قوم الرسل على معنى أنهم بادروا رسلهم بالتكذيب كلما جاء رسول ثم لجوا في الكفر وتمادوا فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم، وقال يحيى بن سلام مِنْ قَبْلُ، معناه من قبل العذاب.
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا القول بعد، ويحتمل اللفظ عندي معنى آخر وهو أن تكون «ما» مصدرية والمعنى فكذبوا رسلهم فكان عقابهم من اللّه أن لم يكونوا ليؤمنوا بتكذيبهم من قبل أي من سببه ومن جراه، ويؤيد هذا التأويل قوله كَذلِكَ نَطْبَعُ، وقال بعض العلماء : عقوبة التكذيب الطبع على القلوب، وقرأ جمهور الناس :«نطبع» بالنون، وقرأ العباس بن الفضل :«يطبع» بالياء، وقوله كَذلِكَ أي هذا فعلنا بهؤلاء، ثم ابتدأ كَذلِكَ نَطْبَعُ أي كفعلنا هذا والْمُعْتَدِينَ هم الذين تجاوزوا طورهم


الصفحة التالية
Icon