المحرر الوجيز، ج ٣، ص : ١٧٦
انحسر عن موضع الكعبة، وهي أول بقعة انحسر الماء عنها، فمست الطين برجليها وجاءته، فعلم أن الماء قد أخذ في النضوب، ودعا لها فطوقت وأنست. فهي لذلك تألف الناس ثم أوحى اللّه إلى الجبال أن السفينة ترسي على واحد منها فتطاولت كلها وبقي الجودي - وهو جبل بالموصل في ناحية الجزيرة - لم يتطاول تواضعا للّه، فاستوت السفينة بأمر اللّه عليه، وبقيت عليه أعوادها، وفي الحديث أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال :«لقد بقي منها شيء أدركه أوائل هذه الأمة». وقال الزجاج : الْجُودِيِّ هو بناحية آمد.
وقال قوم : هو عند باقردى. وروي أن السفينة لما استقلت من عين وردة جرت حتى جاءت الكعبة فوجدتها قد نشزت من الأرض فلم ينلها غرق فطافت بها أسبوعا ثم مضت إلى اليمن ورجعت إلى الجودي.
قال القاضي أبو محمد : والقصص في هذه المعاني كثير صعب أن يستوفي، فأشرت منه إلى نبذ ويدخله الاختلاف كما ترى في أمر الكعبة واللّه أعلم كيف كان. واسْتَوَتْ معناه : تمكنت واستقرت.
وقرأ جمهور الناس :«على الجوديّ» بكسر الياء وشدها، وقرأ الأعمش وابن أبي عبلة «على الجودي» بسكون الياء، وهما لغتان. وقوله وَقِيلَ : بُعْداً يحتمل أن يكون من قول اللّه تعالى عطفا على وَقِيلَ الأول ويحتمل أن يكون من قول نوح والمؤمنين، والأول أظهر وأبلغ.
قوله عز وجل :
[سورة هود (١١) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦)
هذه جملة معطوفة على التي قبلها دون ترتيب، وذلك أن هذه القصة كانت في أول ما ركب نوح في السفينة ويظهر من كلام الطبري أن ذلك كان بعد غرق الابن، وهو محتمل، والأول أليق.
وهذه الآية احتجاج من نوح عليه السّلام، وذلك أن اللّه أمره بحمل أهله وابنه من أهله فينبغي أن يحمل، فأظهر اللّه له أن المراد من آمن من الأهل، ثم حسن المخاطبة بقوله : وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ، وبقوله : وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ، فإن هذه الأقوال معينة في حجته، وهذه الآية تقتضي أن نوحا عليه السّلام ظن أن ابنه مؤمن، وذلك أشد الاحتمالين.
وقوله تعالى : قالَ يا نُوحُ الآية، المعنى قال اللّه تعالى : يا نوح، وقالت فرقة : المراد أنه ليس بولد لك، وزعمت أنه كان لغية وأن امرأته الكافرة خانته فيه، هذا قول الحسن وابن سيرين وعبيد بن عمير : وقال بزي إنما قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالولد للفراش من أجل ابن نوح، وحلف الحسن أنه ليس بابنه، وحلف عكرمة والضحاك أنه ابنه.
قال القاضي أبو محمد : عول الحسن على قوله تعالى : إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ، وعول الضحاك وعكرمة على قوله تعالى : وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ [هود : ٤٢].