المحرر الوجيز، ج ٣، ص : ٣٠٦
قتادة - فيسجد كرها، إما نفاقا، وإما أن يكون الكره أول حاله فتستمر عليه الصفة، وإن صح إيمانه بعد.
وإن جعلنا السجود الخضوع والتذلل - على حسب ما هو في اللغة كقول الشاعر :
ترى الأكم فيه سجدا للحوافر فيدخل الكفار أجمعون في مَنْ لأنه ليس من كافر إلا وتلحقه من التذلل والاستكانة بقدرة اللّه أنواع أكثر من أن تحصى بحسب رزاياه واعتباراته.
وقال النحاس والزجاج : إن الكره يكون في سجود عصاة المؤمنين وأهل الكسل منهم.
قال القاضي أبو محمد : وإن كان اللفظ يقتضي هذا فهو قلق من جهة المعنى المقصود بالآية.
وقوله : وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ، إخبار عن أن الظلال لها سجود للّه تعالى بالبكر والعشيات.
قال الطبري : وهذا كقوله تعالى : أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ [النحل : ٤٨] قال : وذلك هو فيئه بالعشي وقال مجاهد : ظل الكافر يسجد طوعا وهو كاره. وقال ابن عباس : يسجد ظل الكافر حين يفيء عن يمينه وشماله، وحكى الزجاج أن بعض الناس قال :«الظلال» هنا يراد به الأشخاص - وضعفه أبو إسحاق.
والْآصالِ جمع أصيل. وقرأ أبو مجلز :«و الإيصال» قال أبو الفتح : هو مصدر أصلنا أي دخلنا في الأصيل، كأصبحنا وأمسينا.
وروي أن الكافر إذا سجد لصنمه فإن ظله يسجد للّه تعالى حينئذ.
وقوله : قُلْ : مَنْ رَبُّ السَّماواتِ الآية، جاء السؤال والجواب في هذه الآية من ناحية واحدة، إذ كان السؤال والتقرير على أمر واضح لا مدافعة لأحد فيه ملزم للحجة، فكان السبق إلى الجواب أفصح في الاحتجاج وأسرع في قطعهم من انتظار الجواب منهم، إذ لا جواب إلا هذا الذي وقع البدار إليه، وقال مكي : جهلوا الجواب وطلبوه من جهة السائل فأعلمهم به السائل، فلما تقيد من هذا كله أن اللّه تعالى هو رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وقع التوبيخ على اتخاذهم مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ متصفين بأنهم لا ينفعون أنفسهم ولا يضرونها، وهذه غاية العجز، وفي ضمن هذا الكلام : وتركتموه وهو الذي بيده ملكوت كل شيء، ولفظة : مِنْ دُونِهِ تقتضي ذلك.
ثم مثل الكفار والمؤمنين بعد هذا بقوله : قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم :«تستوي الظلمات» بالتاء، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم :«يستوي» بالياء، فالتأنيث حسن لأنه مؤنث لم يفصل بينه وبين عامله شيء.
والتذكير شائع لأنه تأنيث غير حقيقي، والفعل مقدم.
وشبهت هذه الآية الكافر ب الْأَعْمى. والكفر ب الظُّلُماتُ وشبهت المؤمن ب الْبَصِيرُ والإيمان ب النُّورُ : ثم وقفهم بعد : هل رأوا خلقا لغير اللّه فحملهم ذلك واشتباهه بما خلق اللّه على أن جعلوا إلها غير اللّه؟ ثم أمر محمدا عليه السلام بالإفصاح بصفات اللّه تعالى في أنه خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وهذا


الصفحة التالية
Icon