المحرر الوجيز، ج ٣، ص : ٣٣٠
لتعودن في سكوتكم عنا وكونكم أغفالا، وذلك عند الكفار كون في ملتهم.
وخصص تعالى الظَّالِمِينَ من الذين كفروا إذ جائز أن يؤمن من الكفرة الذين قالوا المقالة ناس، فإنما توعد بالإهلاك من خلص للظلم.
وقوله : لَنُسْكِنَنَّكُمُ الخطاب للحاضرين، والمراد هم وذريتهم، ويترتب هذا المعنى في قوله :
وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [إبراهيم : ١٠] أي يؤخركم وأعقابكم.
وقرأ أبو حيوة :«ليهلكن» و«ليسكننكم» بالياء فيهما.
وقوله : مَقامِي يحتمل أن يريد به المصدر من القيام على الشيء بالقدرة، ويحتمل أن يريد به الظرف لقيام العبد بين يديه في الآخرة، فإضافته - إذا كان مصدرا - إضافة المصدر إلى الفاعل، وإضافته - إذا كان ظرفا - إضافة الظرف إلى حاضره، أي مقام حسابي، فجائز قوله : مَقامِي وجائز لو قال : مقامه، وجائز لو قال : مقام العرض والجزاء، وهذا كما تقول : دار الحاكم ودار الحكم ودار المحكوم عليهم.
وقال أبو عبيدة : مَقامِي مجازه، حيث أقيمه بين يدي للحساب، و«الاستفتاح» طلب الحكم، والفتاح : الحاكم، والمعنى : أن الرسل استفتحوا، أي سألوا اللّه تعالى إنفاذ الحكم بنصرهم وتعذيب الكفرة، وقيل : بل استفتح الكفار، على نحو قول قريش عَجِّلْ لَنا قِطَّنا [ص : ١٦] وعلى نحو قول أبي جهل في بدر اللهم أقطعنا للرحم وأتانا بما لا يعرف فاحنه الغداة. هذا قول أبي زيد.
وقرأت فرقة «و استفتحوا» بكسر التاء، على معنى الأمر للرسل، قرأها ابن عباس ومجاهد وابن محيصن.
وخابَ معناه : خسر ولم ينجح، و«الجبار» : المتعظم في نفسه، الذي لا يرى لأحد عليه حقّا، وقيل : معناه يجبر الناس على ما يكرهون.
قال القاضي أبو محمد : وهذا هو المفهوم من اللفظ، وعبر قتادة وغيره عن «الجبار» بأنه الذي يأبى أن يقول : لا إله إلا اللّه.
و«العنيد» الذي يعاند ولا ينقاد، وقوله : مِنْ وَرائِهِ ذكر الطبري وغيره من المفسرين : أن معناه :
من أمامه، وعلى ذلك حملوا قوله تعالى وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ [الكهف : ٧٩] وأنشد الطبري :
أتوعدني وراء بني رياح كذبت لتقصرن يداك دوني
قال القاضي أبو محمد : وليس الأمر كما ذكر، و«الوراء» هنا على بابه، أي هو ما يأتي بعد في الزمان، وذلك أن التقدير في هذه الحوادث بالأمام والوراء إنما هو بالزمان، وما تقدم فهو أمام وهو بين اليد، كما تقول في التوراة والإنجيل إنها بين يدي القرآن، والقرآن وراءهما على هذا، وما تأخر في الزمان فهو وراء المتقدم، ومنه قولهم لولد الولد، الوراء، وهذا الجبار العنيد وجوده وكفره وأعماله في وقت ما، ثم بعد ذلك في الزمان يأتيه أمر جهنم.


الصفحة التالية
Icon