المحرر الوجيز، ج ٣، ص : ٣٤١
وَاجْنُبْنِي معناه : وامنعني، يقال : جنبه كذا وجنبه وأجنبه : إذا منعه من الأمر وحماه منه.
وقرأ الجحدري والثقفي «و أجنبني» بقطع الألف وكسر النون.
وأراد إبراهيم بني صلبه، وكذلك أجيبت دعوته فيهم، وأما باقي نسله فعبدوا الأصنام، وهذا الدعاء من الخليل عليه السلام يقتضي إفراط خوفه على نفسه ومن حصل في رتبته، فكيف يخاف أن يعبد صنما؟! لكن هذه الآية ينبغي أن يقتدى بها في الخوف وطلب الخاتمة.
والْأَصْنامَ هي المنحوتة على خلقة البشر، وما كان منحوتا على غير خلقة البشر فهي أوثان، قاله الطبري عن مجاهد.
ونسب إلى الأصنام أنها أضلت كثيرا من الناس - تجوز - إذ كانت عرضة الإضلال، والأسباب المنصوبة للغيّ، وعليها تنشأ الأغيار، وحقيقة الإضلال إنما هي لمخترعه، وقيل : أراد بالأصنام هنا الدنانير والدراهم.
وقوله : وَمَنْ عَصانِي ظاهره بالكفر، بمعادلة قوله : فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، وإذا كان ذلك كذلك فقوله : فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ معناه : بتوبتك على الكفرة حتى يؤمنوا، لا أنه أراد أن اللّه يغفر لكافر، لكنه حمله على هذه العبارة ما كان يأخذ نفسه به من القول الجميل والنطق الحسن وجميل الأدب - صلى اللّه عليه وسلم - قال قتادة : اسمعوا قول الخليل صلى اللّه عليه وسلم، واللّه ما كانوا طعانين ولا لعانين، وكذلك قال نبي اللّه عيسى وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة : ١١٨] وأسند الطبري عن عبد اللّه بن عمر حديثا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم : تلا هاتين الآيتين ثم دعا لأمته، فبشر فيهم وكان إبراهيم التيمي يقول : من يأمن على نفسه بعد خوف إبراهيم الخليل على نفسه من عبادة الأصنام؟
وقوله : مِنْ ذُرِّيَّتِي يريد : إسماعيل عليه السلام، وذلك أن سارة لما غارت بهاجر - بعد أن ولدت إسماعيل - تعذب إبراهيم عليه السلام، بهما، فروي أنه ركب البراق - هو وهاجر والطفل - فجاء في يوم واحد من الشام إلى بطن مكة، فنزل وترك ابنه وأمته هنالك، وركب منصرفا من يومه ذلك، وكان هذا كله بوحي من اللّه تعالى فلما ولّى دعا بمضمن هذه الآية، وأما كيفية بقاء هاجر وما صنعت وسائر خبر إسماعيل، ففي كتاب البخاري والسير وغيره.
ومِنْ في قوله : مِنْ ذُرِّيَّتِي للتبعيض، لأن إسحاق كان بالشام، و«الوادي» : ما بين الجبلين، وليس من شروطه أن يكون فيه ماء.
وهذه الآية تقتضي أن إبراهيم عليه السلام قد كان علم من اللّه تعالى أنه لا يضيع هاجر وابنها في ذلك الوادي، وأنه يرزقهما الماء، وإنما نظر النظر البعيد للعاقبة فقال : غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، ولو لم يعلم ذلك من اللّه لقال : غير ذي ماء على ما كانت عليه حال الوادي عند ذلك.
وقوله : عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ إما أن يكون البيت قد كان قديما - على ما روي قبل الطوفان، وكان علمه عند إبراهيم - وإما أن يكون قالها لما كان قد أعلمه اللّه تعالى أنه سيبني هنالك بيتا للّه تعالى، فيكون