المحرر الوجيز، ج ٣، ص : ٣٧٩
حيث كان المنذرون كافرين بالألوهية، ففي ضمن أمرهم مكان خوف، وفي ضمن الإخبار بالوحدانية نهي عما كانوا عليه ووعيد، ثم ذكر تعالى ما يقال للأنبياء بالوحي على المعنى، ولم يذكره على لفظه لأنه لو ذكره على اللفظ لقال «أن أنذروا أنه لا إله إلا اللّه»، ولكنه إنما ذكر ذلك على معناه، وهذا سائغ في الأقوال إذا حكيت أن تحكى على لفظها، أو تحكى بالمعنى فقط، وقوله تعالى : خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ الآية، آية تنبيه على قدرة اللّه تعالى بالحق أي بالواجب اللائق، وذلك أنها تدل على صفات يحق لمن كانت له أن يخلق ويخترع ويعيد، وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة النافذة بخلاف شركائهم الذين لا يحق لهم شيء من صفات الربوبية، وقرأ الأعمش بزيادة فاء «فتعالى». وقوله خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ يريد ب الْإِنْسانَ الجنس، وأخذ له الغايتين ليظهر له البعد بينهما بقدرة اللّه، ويروى أن الآية نزلت لقول أبي بن خلف من يحيي العظام وهي رميم؟ وقوله خَصِيمٌ يحتمل أن يريد به الكفرة الذين يختصمون في اللّه ويجادلون في توحيده وشرعه، ذكره ابن سلام عن الحسن البصري، ويحتمل أن يريد أعم من هذا على أن الآية تعديد نعمة الذهن والبيان على البشر، ويظهر أنها إذا تقدر في خصام الكافرين ينضاف إلى العبرة وعيد ما.
قوله عز وجل :
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٥ الى ٩]
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩)
الْأَنْعامَ الإبل والبقر والغنم وأكثر ما يقال نعم وأنعام للإبل، ويقال للمجموع، ولا يقال للغنم مفردة، ونصبها إما عطف على الْإِنْسانَ [النحل : ٤] وإما بفعل مقدر وهو أوجه، و«الدف ء» السخانة وذهاب البرد بالأكسية ونحوها، وذكر النحاس عن الأموي أنه قال : الدفء في لغة بعضهم تناسل الإبل.
قال القاضي أبو محمد : وقد قال ابن عباس : نسل كل شيء، وقد قال ابن سيده :«الدف ء» نتاج الإبل وأوبارها والانتفاع بها، والمعنى الأول هو الصحيح، وقرأ الزهري وأبو جعفر «دف ء» بضم الفاء وشدها وتنوينها، و«المنافع» ألبانها وما تصرف منها ودهونها وحرثها والنضح عليها وغير ذلك، ثم ذكر «الأكل» الذي هو من جميعها، وقوله جَمالٌ أي في المنظر. وتُرِيحُونَ معناه حين تردونها وقت الرواح إلى المنازل فتأتي بطانا ممتلئة الضروع، وتَسْرَحُونَ معناه تخرجونها غدوة إلى السرح، تقول سرحت السائمة إذا أرسلتها تسرح فسرحت هي، كرجع رجعته، وهذا «الجمال» هو لمالكها ولمحبيه وعلى حسدته وهذا المعنى كقوله تعالى الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا [الكهف : ٤٦] وقرأ عكرمة والضحاك «حينما تريحون حينا تسرحون»، وقرأت فرقة «و حينا ترتحون».