المحرر الوجيز، ج ٣، ص : ٣٩٨
جارية في بعض التأويلات على تجوز كلام العرب واقتضائه وضع تتفيأ مكان تتنقل وتميل، وأضاف الظلال إلى ضمير مفرد حملا على لفظ ما أو لفظ شيء، وهو في المعنى لجمع، وقرأ الثقفي «ظلله» بفتح اللام الأولى وضم الثانية وضم الظاء، وقوله عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ أفرد اليمين وهو يراد به الجمع، فكأنه للجنس، والمراد عن الأيمان والشمائل، كما قال الشاعر :[جرير]
الواردون ونيم في ذرى سبأ قد عض أعناقهم جلد الجواميس
وكما قال الآخر :
ففي الشامتين الصخر إن كان هدني رزية شبلي مخدر في الضراغم
والمنصوب للعبرة في هذه الآية هو كل شخص وجرم له ظل كالجبال والشجر وغير ذلك، والذي يترتب فيه أيمان وشمائل إنما هو البشر فقط، لكن ذكر الأيمان والشمائل هنا على جهة الاستعارة لغير البشر، أي تقدره ذا يمين وشمال، وتقدره يستقبل أي جهة شئت، ثم تنظر ظله فتراه يميل إما إلى جهة اليمين وإما إلى جهة الشمال، وذلك في كل أقطار الدنيا، فهذا وجه يعمم لك ألفاظ الآية، وفيه تجوز واتساع، ومن ذهب إلى أن الْيَمِينِ من غدوة النهار إلى الزوال ثم يكون من الزوال إلى المغيب عن الشمال، وهو قول قتادة وابن جريج، فإنما يترتب له ذلك فيما قدره مستقبل الجنوب، والاعتبار في هذه الآية عندي إنما هو المستقبل الجنوب، وما قال بعض الناس من أن الْيَمِينِ أول وقعة للظل بعد الزوال، ثم الآخر إلى الغروب هي عن الشمال، ولذلك جمع الشَّمائِلِ، وأفرد الْيَمِينِ، فتخليط من القول يبطل من جهات، وقال ابن عباس إذا صليت الفجر كان ما بين مطلع الشمس إلى مغربها ظلا، ثم بعث اللّه الشمس عليه دليلا فقبض إليه الظل.
قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا فأول ذرور الشمس فالظل عن يمين مستقبل الجنوب ثم يبدأ الانحراف فهو عن الشمائل لأنها حركات كثيرة، وظلال متقطعة، فهي شمائل كثيرة، وكأن الظل عن اليمين متصلا واحدا عاما لكل شيء، وفي هذا القول تجوز في تفيأ، وعلى ما قدرنا من استقبال الجنوب يكون الظل أبدا مندفعا عن اليمين إلى الزوال، فإذا تحرك بعد فارق الأيمان جملة وصار اندفاعه عن الشمائل، وقالت فرقة «الظلال» هنا الأشخاص هي المراد أنفسها، والعرب تعبر أحيانا عن الأشخاص بالظل، ومنه قول عبدة بن الطيب :[البسيط]
إذا نزلنا نصبنا ظل أخبية وفار للقوم باللحم المراجيل
وإنما تنصب الأخبية، ومنه قول الآخر :[الطويل ] تتبع أفياء الظلال عشية أي أفياء الأشخاص.
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله محتمل غير صريح، وإن كان أبو علي قد قدره، واختلف المتأولون في هذا السجود فقالت فرقة هو سجود عبادة حقيقة، وذكر الطبري عن الضحاك قال إذا زالت المحررد كل شيء قبل القبلة من نبت أو شجر، ولذلك كان الصالحون يستحبون الصلاة في ذلك الوقت، وقال مجاهد إنما تسجد الظلال لا الأشخاص وقالت فرقة، منهم الطبري عبر عن الخضوع والطاعة وميلان الظل ودورانها بالسجود، وكما يقال للمشير برأسه على جهة الخضوع والطاعة وميلان الظل ساجد ومنه قول الشاعر :[الطويل ]
فكلتاهما خرت وأسجد رأسها كما سجدت نصرانة لم تحنف
والداخر المتصاغر المتواضع، ومنه قول ذي الرمة :[الطويل ]
فلم يبق إلا داخر في مخيّس ومنجحر في غير أرضك في جحر
قوله عز وجل
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٤٩ الى ٥٥]
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠) وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣)
ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥)
وقعت ما في هذه الآية لما يعقل، قال الزجاج : قوله ما فِي السَّماواتِ يعم ملائكة السماء وما في السحاب وما في الجو من حيوان، وقوله وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ بين، ثم ذكر ملائكة الأرض في قوله وَالْمَلائِكَةُ ويحتمل أن يكون قوله : وَالْمَلائِكَةُ هو الذي يعم «السماوات والأرض»، وما قبل ذلك لا يدخل فيه ملك، إنما هو للحيوان أجمع، وقوله يَخافُونَ رَبَّهُمْ عام لجميع الحيوان، وقوله مِنْ فَوْقِهِمْ يحتمل معنيين : أحدهما الفوقية التي يوصف بها اللّه تعالى فهي فوقية القدر والعظمة والقهر والسلطان، والآخر أن يتعلق قوله مِنْ فَوْقِهِمْ بقوله يَخافُونَ، أي يخافون عذاب ربهم من فوقهم، وذلك أن عادة عذاب الأمم إنما أتى من جهة فوق، وقوله وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ أما المؤمنون فبحسب الشرع والطاعة، وأما غيرهم من الحيوان فبالتسخير والقدر الذي يسوقهم إلى ما نفد من أمر اللّه تعالى، وقوله وَقالَ اللَّهُ الآية، آية نهي من اللّه تعالى عن الإشراك به ومعناها لا تتخذوا إلهين اثنين فصاعدا، بما ينصه من قوله إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ، قالت فرقة المفعول الأول ب تَتَّخِذُوا قوله إِلهَيْنِ، وقوله اثْنَيْنِ تأكيد وبيان بالعدد، وهذا معروف في كلام العرب أن يبين المعدود بذكر عدده تأكيدا، ومنه قوله إِلهٌ واحِدٌ لأن لفظ إِلهٌ يقتضي الانفراد، وقال قوم منهم : المفعول الثاني محذوف تقديره معبودا أو مطاعا ونحو هذا، وقالت فرقة : المفعول الأول اثْنَيْنِ، والثاني قوله إِلهَيْنِ، وتقدير الكلام لا تتخذوا اثنين إلهين، ومثله قوله تعالى أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ [الإسراء : ٢ - ٣] ففي هذه الآية على بعض الأقوال تقديم المفعول الأول ل تَتَّخِذُوا، وقوله فَإِيَّايَ منصوب بفعل مضمر تقديره