المحرر الوجيز، ج ٣، ص : ٤٢٥
ل مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً [النحل : ١٠٦]، ولما فعلوا فعل من استحب ألزموا ذلك وإن كانوا مصدقين بآخرة لكن الأمر في نفسه بين، فمن حيث أعرضوا عن النظر فيه كانوا كمن استحب غيره، وهذه الآية علق فيها العقاب بتكسبهم وذلك أن استحبابهم زينة الدنيا ولذات الكفر هو التكسب، وقوله وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي إشارة إلى اختراع اللّه تعالى الكفر في قلوبهم، ولا شك أن كفر الكافر الذي يتعلق به العقاب إنما هو باختراع من اللّه تعالى وتكسب من الكافر، فجمعت الآية بين الأمرين، وعلى هذا مرت عقيدة أهل السنة، وقوله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ عموم على أنه لا يهديهم من حيث إنهم كفار في نفس كفرهم، أو عموم يراد به الخصوص فيمن يوافي، وقوله أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ الآية، عبارة عن صرف اللّه لهم عن طريق الهدى، واختراع الكفر المظلم في قلوبهم، وتغليب الإعراض على نظرهم، فكأنه سد بذلك طرق هذه الحواس حتى لا ينتفع بها في اعتبار وتأمل، وقد تقدم القول وذكر الاختلاف في الطبع والختم في سورة البقرة، وهل هو حقيقة أو مجاز؟ و«السمع» اسم جنس وهو مصدر في الأصل، فلذلك وحد، ونبه على تكسبهم الإعراض عن النظر، فوصفهم ب «الغفلة»، وقد تقدم شرح لا جَرَمَ في هذه السورة، وقوله ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا الآية، قال ابن عباس : كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النساء : ٩٧] إلى آخر الآية قال : وكتب بها إلى من بقي بمكة من المسلمين وأن لا عذر لهم، فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة فنزلت وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة : ٨ العنكبوت : ١٠] إلى آخر
الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك فخرجوا ويئسوا من كل خير، ثم نزلت فيهم : ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا الآية، فكتبوا إليهم بذلك أن اللّه قد جعل لكم مخرجا فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا، وقتل من قتل.
قال القاضي أبو محمد : جاءت هذه الرواية هكذا أن بعد نزول الآية خرجوا فجيء الجهاد الذي ذكر في الآية جهادهم مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وروت طائفة أنهم خرجوا وأتبعوا، وجاهدوا متبعيهم، فقتل من قتل، ونجا من نجا فنزلت الآية حينئذ، فعنى بالجهاد المذكور جهادهم لمتبعيهم، وقال ابن إسحاق : ونزلت هذه الآية في عمار بن ياسر وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد.
قال القاضي أبو محمد : وذكر عمار في هذا عندي غير قويم، فإنه أرفع من طبقة هؤلاء، وإنما هؤلاء من شرح بالكفر صدرا فتح اللّه لهم باب التوبة في آخر الآية، وقال عكرمة والحسن : نزلت هذه الآية في شأن عبد اللّه بن أبي سرح وأشباهه، فكأنه يقول من بعد ما فتنهم الشيطان وهذه الآية مدنية، ولا أعلم في ذلك خلافا، وإن وجد فهو ضعيف، وقرأ الجمهور «من بعد ما فتنوا» بضم الفاء وكسر التاء، وقرأ ابن عامر وحده «فتنوا» بفتح الفاء والتاء، فإن كان الضمير للمعذبين فيجيء بمعنى فتنوا أنفسهم بما أعطوا للمشركين من القول، كما فعل عمار، وإن كان الضمير للمعذبين فهو بمعنى من بعد ما فتنهم المشركون، وإن كان الضمير للمشركين فهو بمعنى من بعد ما فتنهم الشيطان، والضمير في بَعْدِها عائد على الفتنة، أو على الفعلة، أو الهجرة، أو التوبة، والكلام يعطيها، وإن لم يجر لها ذكر صريح، وقوله يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ


الصفحة التالية
Icon