المحرر الوجيز، ج ٣، ص : ٤٢٨
[سورة النحل (١٦) : آية ١١٥]
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥)
حصرت إِنَّما هذه المحرمات وقت نزول الآية، ثم نزلت المحرمات بعد ذلك وقرأ جمهور الناس :«الميتة»، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع :«الميّتة» وهذا هو الأصل وتخفيف الياء طارئ عليه، والعامل في نصبها حَرَّمَ، وقرأت فرقة «الميتة» بالرفع على أن تكون «ما» بمعنى الذي.
قال القاضي أبو محمد : وكون «ما» متصلة «بإن» يضعف هذا ويحكم بأنها حاصرة و«ما» كافة، وإذا كانت بمعنى الذي فيجب أن تكون منفصلة، وذلك خلاف خط المصحف، وقرأ الجمهور «حرم» على معنى حرم اللّه، وقرأت فرقة «حرّم» على ما لم يسم فاعله، وهذا برفع «الميتة» ولا بد.
قال القاضي أبو محمد : والْمَيْتَةَ المحرمة هي ما مات من حيوان البر الذي له نفس سائلة حتف أنفه، وأما ما ليس له نفس سائلة كالجراد والبراغيث والذباب ودود التين وحيوان الفول وما مات من الحوت حتف أنفه وطفا على الماء ففيه قولان في المذهب، وما مات حتف أنفه من الحيوان الذي يعيش في الماء وفي البر كالسلاحف ونحوها ففيه قولان والمنع هنا أظهر إلا أن يكون الغالب عليه العيش في الماء وَالدَّمَ المحرم هو المنسفح الذي يسيل إن ترك مفردا وأما ما خالط اللحم وسكن فيه فحلال طبخ ذلك اللحم فيه، ولا يكلف أحد تتبعه، ودم الحوت مختلف فيه وإن كان ينسفح لو ترك، وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ هو معظمه والمقصود الأظهر فيه، فلذلك خصه بالذكر، وأجمعت الأمة على تحريم شحمه وغضاريفه ومن تخصيصه استدلت فرقة على جواز الانتفاع بجلده إذا دبغ ولبسه، والأولى تحريمه جملة، وأما شعره فالانتفاع به مباح، وقالت فرقة ذلك غير جائز، والأول أرجح، وقوله : وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ يريد كل ما نوي بذبحه غير التقرب إلى اللّه والقرب إلى سواء، وسواء تكلم بذلك على الذبيحة أو لم يتكلم، لكن خرجت العبارة عن ذلك ب أُهِلَّ، ومعناه صحيح على عادة العرب وقصد الغض منها وذلك أنها كانت إذا ساقت ذبيحة إلى صنم جهرت باسم ذلك الصنم وصاحت به، وقوله : فَمَنِ اضْطُرَّ قالت فرقة : معناه أكره وقال الجمهور : معناه اضطره جوع واحتياج، وقرأت فرقة «فمن» بضم النون «اضطر» بضم الطاء، وقرأت فرقة «فمن» بكسر النون «اضطر» بكسر الطاء، على أن الأصل اضطرت، فنقلت حركة الراء إلى
الطاء وأدغمت الراء في الراء، وقالت فرقة :«الباغي» صاحب البغي على الإمام، أو في قطع الطريق وبالجملة في سفر المعاصي، و«العادي» بمعناه في أنه ينوي المعصية، وقال الجمهور : غَيْرَ باغٍ معناه غير مستعمل لهذه المحرمات مع وجود غيرها، وَلا عادٍ معناه لا يعدو حدود اللّه في هذا، وهذا القول أرجح وأعم في الرخصة، وقالت فرقة : باغٍ وعادٍ في الشبع والتزود، واختلف الناس في صورة الأكل من الميتة، فقالت فرقة : الجائز من ذلك ما يمسك الرمق فقط، وقالت فرقة : بل يجوز الشبع التام، وقالت فرقة منهم مالك رحمه اللّه : يجوز الشبع والتزود، وقال بعض النحويين في قوله عادٍ إنه مقلوب من عائد، فهو كشاكي السلاح وكيوم راح وكقول الشاعر : لأن بها الأشياء والعنبري، وقوله : فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، لفظ يقتضي منه الإباحة للمضطر، وخرجت الإباحة في هذه الألفاظ تحرجا وتضييقا في أمرها ليدل الكلام على عظم الخطر في هذه المحرمات، فغاية هذا المرخص له غفران اللّه له وحطه عنه ما كان يلحقه من الإثم لو لا ضرورته.


الصفحة التالية
Icon