المحرر الوجيز، ج ٣، ص : ٤٣٢
هذه الآية نزلت بمكة في وقت الأمر بمهادنة المشركين، أمره اللّه تعالى أن يدعو إلى اللّه وشرعه بتلطف، وهو أن يسمع المدعو حكمه، وهو الكلام الصواب القريب الواقع في النفس أجمل موقع، وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ التخويف والترجية والتلطف بالإنسان بأن يحله ويبسطه ويجعله بصورة من يقبل الفضائل، ونحو هذا، فهذه حالة من يدعى وحالة من يجادل دون مخاشنة، ويبين عليه دون قتال، فالكلام يعطي أن جدك وهمك وتعبك لا يغني لأن اللّه تعالى قد علم من يؤمن منهم ويهتدي، وعلم من يضل، فجملة المعنى اسلك هذا السبيل ولا تعن للمخاشنة لأنها غير مجدية لأن علم اللّه قد سبق بالمهتدي منهم والضال، وقالت فرقة : هذه الآية منسوخة بآية القتال، وقالت فرقة هي محكمة.
قال القاضي أبو محمد : ويظهر لي أن الاقتصار على هذه الحال وأن لا تتعدى مع الكفرة متى احتيج إلى المخاشنة هو منسوخ لا محالة، وأما من أمكنت معه هذه الأحوال من الكفار ورجي إيمانه بها دون قتال فهي محكمة إلى يوم القيامة، وأيضا فهي محكمة في جهة العصاة، فهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة. وقوله وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا الآية، أطبق أهل التفسير أن هذه الآية مدنية نزلت في شأن التمثيل بحمزة في يوم أحد، ووقع ذلك في صحيح البخاري، وفي كتاب السير وذهب النحاس إلى أنها مكية.
قال القاضي أبو محمد : والمعنى متصل بما قبلها من المكي اتصالا حسنا لأنها تتدرج الرتب من الذي يدعى ويوعظ إلى الذي يجادل إلى الذي يجازى على فعله، ولكن ما روى الجمهور أثبت، وأيضا فقوله وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ يقلق بمعنى الآية على ما روى الجميع أن كفار قريش كما مثلوا بحمزة فنال ذلك من نفس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقال «لئن أظفرني اللّه بهم لأمثلن بثلاثين»، وفي كتاب النحاس وغيره «بتسعين» منهم فقال الناس :«إن ظفرنا لنفعلن ولنفعلن»، فنزلت هذه الآية، ثم عزم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الصبر في الآية بعدها، وسمى الإذناب في هذه الآية عقوبة، والعقوبة حقيقة إنما هي الثانية وإنما فعل ذلك ليستوي اللفظان وتتناسب ديباجة القول، وهذا بعكس قوله مَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران : ٥٤]، وقوله اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة : ١٥]، فإن الثاني هو المجاز، والأول هو الحقيقة، وقرأ ابن سيرين :«و إن عقبتم فعقبوا»، وحكى الطبري عن فرقة : أنها قالت إنما نزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة أن لا ينال من ظالمه إذا تمكن إلا مثل ظلامته لا يتعداه إلى غيره، واختلف أهل العلم فيمن ظلمه رجل في أخذ مال ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال تجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه، فقالت فرقة : له ذلك، منهم ابن سيرين وإبراهيم النخعي وسفيان ومجاهد، واحتجت بهذه الآية وعموم لفظها، وقال مالك وفرقة معه : لا يجوز له ذلك، واحتجوا بقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :«أدّ الأمانة إلى من استأمنك ولا تخن من خانك».