المحرر الوجيز، ج ٣، ص : ٥٣٥
لقوم تجار، ولكنهم من حيث هم مسافرون على قلة، وفي لجة بحر، وبحال ضعف عن مدافعة غصب جائر، عبر عنهم ب «مساكين»، إذ هم في حالة يشفق عليهم بسببها.
قال القاضي أبو محمد : وهذا كما تقول لرجل غني إذا وقع في وهدة وخطب مسكين وقالت فرقة :
كانوا عشرة إخوة : أهل عاهات خمسة منهم : عاملون بالسفينة لا قدرة بهم على العمل، وقرأت فرقة «لمساكين» بتشديد السين. واختلف في تأويل ذلك فقالت فرقة أراد ب «المساكين» ملاحي السفينة وذلك أن المساك هو الذي يمسك رجل المركب وكل الخدمة يصلح لإمساكه، فسمي الجميع «مساكين»، وقالت فرقة : أراد «المسّاكين» دبغة المسوك، وهي الجلود واحدها مسك.
قال القاضي أبو محمد : والأظهر في ذلك القراءة الأولى وأن معناها أن السفينة لقوم ضعفاء ينبغي أن يشفق لهم، واحتج الناس بهذه الآية في أن المسكين الذي له البلغة من العيش كالسفينة لهؤلاء، وأنه أصلح حالا من الفقير، واحتج من يرى خلاف هذا بقول الشاعر :[البسيط]
أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد
وتحرير هذا عندي أنهما لفظان يدلان على ضعف الحال جدا، ومع المسكنة انكشاف وذل وسؤال، ولذلك جعلها اللّه صنفين، في قسم الصدقات، فأما حديث النبي صلى اللّه عليه وسلم الذي هو :«ليس المسكين بهذا الطواف». فجعل المساكين في اللغة أهل الحاجة الذين قد كشفوا وجوههم، وأما قول اللّه تعالى : لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا [البقرة : ٢٧٣]. فجعل الفقراء أهل الحاجة الذين لم يكشفوا وجوههم، وقد تقدم القول في هذه المسألة بأوعب من هذا. وقوله وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ قال قوم معناه أمامهم، وقالوا وراء من الأضداد، وقرأ ابن جبير وابن عباس :«و كان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة» صحيحة وقرأ عثمان بن عفان «و كان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة».
قال القاضي أبو محمد : وقوله وَراءَهُمْ هو عندي على بابه وذلك أن هذه الألفاظ إنما تجيء مراعا بها الزمن، وذلك أن الحادث المقدم الوجود هو الإمام، وبين اليد : لما يأتي بعده في الزمن، والذي يأتي بعد : هو الوراء وهو ما خلف، وذلك بخلاف ما يظهر ببادي الرأي، وتأمل هذه الألفاظ في مواضعها حيث وردت تجدها تطرد، فهذه الآية معناها : أن هؤلاء وعملهم، وسعيهم، يأتي بعده في الزمن غصب هذا الملك، ومن قرأ «أمامهم»، أراد في المكان، أي إنهم كانوا يسيرون إلى بلده، وقوله تعالى في التوراة والإنجيل إنها بين يدي القرآن، مطرد على ما قلنا في الزمن، وقوله مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ [الجاثية : ١٠] مطرد كما قلنا مراعاة الزمن وقول النبي صلى اللّه عليه وسلم «الصلاة أمامك» يريد في المكان، وإلا فكونهم في ذلك الوقت كان أمام الصلاة في الزمن وتأمل هذه المقالة فإنها مريحة من شغب هذه الألفاظ، ووقع لقتادة في كتاب الطبري وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ قال قتادة أمامهم، ألا ترى أنه يقول مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ [الجاثية : ١٠] وهي بين أيديهم. وهذا القول غير مستقيم وهذه هي العجمة التي كان الحسن بن أبي الحسن يضج منها قاله الزجاج ويجوز إن كان رجوعهم في طريقهم على الغاصب، فكان وراءهم حقيقة، وقيل اسم هذا الغاصب هدد بن بدد، وقيل اسمه الجلندا، وهذا كله غير ثابت، وقوله كُلَّ سَفِينَةٍ عموم