المحرر الوجيز، ج ٤، ص : ٢٢٠
الطاعة، وإن أسرف، والمسرف هو المنفق في المعصية وإن قل إنفاقه، وأن المقتر هو الذي يمنع حقا عليه، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وابن زيد، وقال عون بن عبد اللّه بن عتبة «الإسراف» أن تنفق مال غيرك.
ونحو هذه الأقوال التي هي غير مرتبطة بلفظ الآية، وخلط الطاعة والمعصية بالإسراف والتقتير فيه نظر، والوجه أن يقال إن النفقة في المعصية أمر قد حظرت الشريعة قليله وكثيره، وكذلك التعدي على مال الغير، وهؤلاء الموصوفون منزهون عن ذلك، وإنما التأديب بهذه الآية هو في نفقة الطاعات وفي المباحات، فأدب الشرع فيها أن لا يفرط الإنسان حتى يضيع حقا آخر أو عيالا ونحو هذا وأن لا يضيق أيضا ويقتر حتى يجيع العيال ويفرط في الشح، والحسن في ذلك هو القوام، أي المعتدل، والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله وخفة ظهره وصبره وجلده على الكسب أو ضد هذه الخصال، وخير الأمور أوسطها، ولهذا ترك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا بكر يتصدق بجميع ماله لأن ذلك وسط بنسبة جلده وصبره في الدين ومنع غيره من ذلك، ونعم ما قال إبراهيم النخعي وهو الذي لا يجيع ولا يعري ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف، وقال يزيد بن حبيب هم الذين لا يلبسون الثياب للجمال ولا يأكلون طعاما للذة، وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوجه ابنته فاطمة : ما نفقتك؟ فقال له عمر الحسنة بين السيئتين، ثم تلا الآية، وقال عمر بن الخطاب كفى بالمرء سرفا ألا يشتهي شيئا إلا اشتراه فأكله، وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «يقتروا» بضم الياء وكسر التاء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ومجاهد وحفص عن عاصم «يقتروا» بفتح الياء وكسر التاء، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء وفتح التاء، وهي قراءة الحسن والأعمش وطلحة وعاصم بخلاف، وقرأ أبو عبد الرحمن بضم الياء وفتح التاء، وقرأ أبو عمرو «و الناس قواما» بفتح القاف، أي معتدلا، وقرأ حسان بن عبد الرحمن بكسر القاف أي مبلغا وسدادا وملاك حال، وقَواماً خبر كانَ واسمها مقدر أي الإنفاق، وجوز الفراء أن يكون اسمها قوله بَيْنَ ذلِكَ.
وقوله تعالى : وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ الآية إخراج لعباده المؤمنين من صفات الكفرة في عبادتهم الأوثان وقتلهم النفس بوأد البنات وغير ذلك من الظلم والاغتيال والغارات وبالزنا الذي كان عندهم مباحا، وفي نحو هذه الآية قال عبد اللّه بن مسعود : قلت يوما يا رسول اللّه أي الذنب أعظم؟ قال : أن تجعل للّه ندا وهو خلقك، قلت ثم أي؟ قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت ثم أي؟ قال أن تزاني حليلة جارك، ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الآية.
قال الفقيه الإمام القاضي : والقتل والزنا يدخل في هذه الآية العصاة من المؤمنين ولهم من الوعيد بقدر ذلك، «و الحق» الذي تقتل به النفس هو قتل النفس والكفر بعد الإيمان، و«الزنا» بعد الإحصان، والكفر الذي لم يتقدمه إيمان في الحربيين، و«الأثام» في كلام العرب العقاب وبه فسر ابن زيد وقتادة هذه الآية ومنه قول الشاعر :[الوافر]
جزى اللّه ابن عروة حيث أمسى عقوقا والعقوق له أثام
أي جزاء وعقوبة، وقال عكرمة وعبد اللّه بن عمرو ومجاهد إن أَثاماً واد في جهنم هذا اسمه وقد جعله اللّه عقابا للكفرة، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي «يضاعف ويخلد» جزما، وقرأ ابن كثير وأبو جعفر والحسن «يضعّف» بشد العين وطرح الألف وبالجزم في «يضعف ويخلد»، وقرأ طلحة بن سليمان


الصفحة التالية
Icon