المحرر الوجيز، ج ٤، ص : ٢٥٣
قوله عز وجل :
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١٥ الى ١٧]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧)
هذا ابتداء قصص فيه غيوب وعبر وليس بمثال لقريش، وداوُدَ من بني إسرائيل وكان ملكا وَوَرِثَ سُلَيْمانُ ملكه ومنزلته من النبوءة بمعنى صار إليه ذلك بعد موت أبيه فسمي ميراثا تجوزا، وهذا نحو قولهم العلماء ورثة الأنبياء، وحقيقة الميراث في المال والأنبياء لا تورث أموالهم لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال :«إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة»، ويحتمل قوله عليه السلام «إنا معشر الأنبياء لا نورث» أن يريد به أن ذلك من فعل الأنبياء وسيرتهم وإن كان فيهم من ورث ماله كزكرياء على أشهر الأقوال فيه، وهذا كما تقول : إنا معشر المسلمين إنما شغلنا العبادة، فالمراد أن ذلك فيه فعل الأكثر، ومنه ما حكى سيبويه أنا معشر العرب أقرى الناس لضيف. وقوله عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ إخبار بنعمة اللّه عندهما في أن فهمهما من أصوات الطير المعاني التي نفوسها، وهذا نحو ما كان نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم يسمع أصوات الحجارة بالسلام وسليمان عليه السلام حكى عن البلبل أنه قال : أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء إلى كثير من هذا النوع وقال قتادة والشعبي وغيره : إنما كان هذا الأمر في الطير خاصة والنملة طائر قد يوجد له الأجنحة، قال الشعبي : وكذلك كانت هذه القائلة ذات جناحين، وقالت فرقة : بل كان في جميع الحيوان وإنما ذكر الطير لأنه كان جندا من جنود سليمان يحتاجه في التظليل عن الشمس وفي البعث في الأمور فخص لكثرة مداخلته ولأن أمر سائر الحيوان نادر وغير متردد ترداد أمر الطير، والنمل حيوان فطن قويّ شمام جدا يدخر القرى ويشق الحب بقطعتين لئلا ينبت ويشق الكزبرة بأربع قطع لأنها تنبت إذا قسمت شقين ويأكل في عامه نصف ما جمع، ويستبقي سائره عدّة، وقوله وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ معناه يصلح لنا ونتمناه وليست على العموم، ثم ردد شكر فضل اللّه تعالى، ثم قص تعالى حال سليمان فقال :
وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ أي جمع واختلف الناس في مقدار جند سليمان عليه السلام اختلافا شديدا لم أر ذكره لعدم صحة التحديد، غير أن الصحيح أن ملكه كان عظيما ملأ الأرض وانقادت له المعمورة وكان كرسيه يحمل أجناده من الإنس والجن، وكانت الطير تظله من الشمس ويبعثها في الأمور، وكان له في الكرسي الأعظم موضع يخصه، ويُوزَعُونَ معناه يرد أولهم إلى آخرهم ويكفّون، وقال قتادة فكان لكل صنف وزعة في رتبهم ومواضعهم من الكرسي ومن الأرض إذا مشوا فيها فرب وقت كان يسير فيه في الأرض، ومنه قول الحسن الصبري حين ولي قضاء البصرة : لا بد للحاكم من وزعة، ومنه قول أبي قحافة حين وصفت له الجارية في يوم الفتح أنها ترى سوادا أمامه فارس قد نهد من الصف فقال لها : ذلك الوازع، ومنه قول الشاعر [النابغة الذبياني ] :[الطويل ]
على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألمّا أصح والشيب وازع
أي كاف.


الصفحة التالية
Icon