المحرر الوجيز، ج ٤، ص : ٢٥٨
تهمما بأمر الشمس فرأت الهدهد فعلمت أمره ثم جمعت أهل ملكها وعلية قومها فخاطبتهم بما يأتي بعد.
قوله عز وجل :
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٢٩ الى ٣٤]
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (٣٣)
قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤)
في هذا الموضع اختصار لما يدل ظاهر القول عليه تقديره فألقى الكتاب وقرأته وجمعت له أهل ملكها، والْمَلَأُ أشراف الناس الذين ينوبون مناب الجميع، ووصفت «الكتاب بالكرم» إما لأنه من عند عظيم في نفسها ونفوسهم فعظمته إجلالا لسليمان، وهذا قول ابن زيد، وإما أنها أشارت إلى أنه مطبوع عليه بالخاتم، وروي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال :«كرم الكتاب ختمه» وإما إن أرادت أنه بدىء بِسْمِ اللَّهِ ف كَرِيمٌ ضد أجذم كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «كل كلام لم يبدأ باسم اللّه تعالى فهو أجذم، ثم أخذت تصف لهم ما في الكتاب فيحتمل اللفظ أنه نص الكتاب موجزا بليغا وكذلك كتب الأنبياء وقدم فيه العنوان وهي عادة الناس على وجه الدهر، ثم سمى اللّه تعالى، ثم أمرهم بأن لا يعلوا عليه طغيانا وكفرا وأن يأتوه مُسْلِمِينَ، ويحتمل أنها قصدت إلى اقتضاب معانيه دون ترتيبه فأعلمتهم إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وأن معنى ما فيه كذا وكذا، وقرأ أبيّ «و أن بسم اللّه» بفتح الهمز وتخفيف النون وحذف الهاء، وقرأ ابن أبي عبلة «أنه» من «و أنه» بفتح الهمزة فيهما، وفي قراءة عبد اللّه «و أنه من سليمان» بزيادة، وبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، استفتاح شريف بارع المعنى معبر عنه بكل لغة وفي كل شرع، و«أن» في قوله تعالى : أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ يحتمل أن تكون رفعا على البدل من كِتابٌ، أو نصبا على معنى «بأن لا تعلوا»، أو مفسرة بمنزلة أي قاله سيبويه، وقرأ وهب بن منبه «أن لا تغلوا» بالغين منقوطة، قال أبو الفتح رواها وهب عن ابن عباس وهي قراءة الأشهب العقيلي ذكرها الثعلبي ثم أخذت في حسن الأدب مع رجالها ومشاورتهم في أمرها وأعلمتهم أن ذلك مطرد عندها في كل أمر فكيف في هذه النازلة الكبرى، فراجعها الملأ بما يقر عينها من إعلامهم إياها ب «القوة والبأس» أي وذلك مبذول إليك فقاتلي إن شئت، ثم سلموا الأمر
إلى نظرها وهذه محاورة حسنة من الجميع، وفي قراءة عبد اللّه «ما كنت قاضية أمرا» بالضاد من القضاء، وذكر مجاهد في عدد أجنادها أنها كان لها اثنا عشر ألفا، قيل تحت يد كل واحد منهم مائة ألف.
قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد، وذكر غيره نحوه فاختصرته لبعد الصحة عنه، ثم أخبرت بلقيس عند ذلك بفعل الْمُلُوكَ بالقرى التي يتغلبون عليها، وفي الكلام خوف على قومها وحيطة لهم واستعظام لأمر سليمان عليه السلام، وقالت فرقة إن وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ من قول بلقيس تأكيدا منها للمعنى الذي أرادته، وقال ابن عباس : هو من قول اللّه تعالى معرفا لمحمد عليه السلام وأمته ومخبرا به.