المحرر الوجيز، ج ٤، ص : ٣٢٤
هذه الآيات نزلت في تحريض المؤمنين الذين كانوا بمكة على الهجرة، فأخبرهم تعالى بسعة أرضه وأن البقاء في بقعة على أذى الكفار ليس بصواب، بل الصواب أن تلتمس عبادة اللّه في أرضه، وقال ابن جبير وعطاء ومجاهد : إن الأرض التي فيها الظلم والمنكر تترتب فيها هذه الآية وتلزم الهجرة عنها إلى بلد حق، وقاله مالك، وقال مطرف بن الشخير قوله إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
عدة بسعة الرزق في جميع الأرض، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر «يا عبادي» بفتح الياء، وقرأ ابن عامر وحده «إن أرضي» بفتح الياء أيضا، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بسكونها، وكذلك قرأ نافع وعاصم «أرضي» ساكنة، وقوله تعالى :
فَإِيَّايَ
منصوب بفعل مقدر يدل عليه الظاهر تقديره فَإِيَّايَ
اعبدوا فَاعْبُدُونِ
على الاهتمام أيضا في التقديم، وقوله تعالى : كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ تحقير لأمر الدنيا ومخاوفها كأن بعض المؤمنين نظر في عاقبة تلحقه في خروجه من وطنه أنه يموت أو يجوع ونحو هذا، فحقر اللّه تعالى شأن الدنيا، أي أنتم لا محالة ميتون ومحشورون إلينا، فالبدار إلى طاعة اللّه عز وجل والهجرة إليه أولى ما يمتثل، وقرأ الجمهور «ترجعون» بالتاء من فوق، ورويت عن عاصم بالياء من تحت وذكرها أبو حاتم عن أبي عمرو، وقرأ أبو حيوة «كل نفس ذائقة» بالتنوين «الموت» بالنصب، ثم وعد المؤمنين العاملين بسكنى الجنة تحريضا منه تعالى، وذكر الجزاء الذي ينالونه، وقرأ جمهور القراء «لنبوئنهم» من المباءة أي لننزلنهم ولنمكننهم ليدوموا فيها، وغُرَفاً مفعول ثان لأنه فعل يتعدى إلى مفعولين، وقرأ حمزة والكسائي «لنثوينهم» من أثوى يثوي وهو معدى ثوى بمعنى أقام وهي قراءة على بن أبي طالب رضي اللّه عنه وابن مسعود والربيع بن خيثم وابن وثاب وطلحة، وقرأها بعضهم «لنثوّينهم» بفتح الثاء وتشديد الواو معدى بالتضعيف لا بالهمزة، فقوله غُرَفاً نصب بإسقاط حرف الجر التقدير في غرف، وقرأ يعقوب «لنبوينهم» بالياء من تحت، وروي عن ابن عامر «غرفا» بضم الغين والراء، ثم وصفهم تعالى بالصبر والتوكل وهاتان جماع الخير كله أي الصبر على الطاعات وعن الشهوات.
قوله عز وجل :
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٦٠ الى ٦٣]
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣)
كَأَيِّنْ بمعنى كم، وهذه الآية أيضا تحريض على الهجرة لأن بعض المؤمنين فكر في الفقر والجوع الذي يلحقه في الهجرة وقالوا غربة في بلد لا دار لنا فيه ولا عقار ولا من يطعم فمثل لهم بأكثر الدواب التي تتقوت ولا تدخر ولا تروي في رزقها، المعنى فهو يرزقكم أنتم، ففضلوا طاعته على كل