المحرر الوجيز، ج ٤، ص : ٤٠٢
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٧٢ الى ٧٣]
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣)
اختلف الناس في الْأَمانَةَ فقال ابن مسعود هي أمانات المال كالودائع ونحوها، وروي عنه أنه في كل الفرائض وأشدها أمانة المال، وذهبت فرقة، هي الجمهور، إلى أنه كل شيء يؤتمن الإنسان عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا، فالشرع كله أمانة، قال أبيّ بن كعب من الأمانة ان ائتمنت المرأة على فرجها، وقال أبو الدرداء غسل الجنابة أمانة، ومعنى الآية إِنَّا عَرَضْنَا على هذه المخلوقات العظام أن تحمل الأوامر والنواهي وتقتضي الثواب إن أحسنت والعقاب إن أساءت فأبت هذه المخلوقات وأشفقت، ويحتمل أن يكون هذا بإدراك يخلقه اللّه لها، ويحتمل أن يكون هذا العرض على من فيها من الملائكة، ويروى أنها قالت «رب ذرني مسخرة لما شئت أتيت طائعة فيه ولا تكلني إلى نظري وعملي ولا أريد ثوابا»، وحمل الإنسان الأمانة أي التزم القيام بحقها، وهو في ذلك ظلوم لنفسه جهول بقدر ما دخل فيه، وهذا هو تأويل ابن عباس وابن جبير، وقال الحسن حَمَلَهَا معناه خان فيها والآية في الكافر والمنافق.
قال الفقيه الإمام القاضي : والعصاة على قدرهم، وقال ابن عباس والضحاك وغيره الْإِنْسانُ آدم تحمل الأمانة فما تم له يوم حتى عصى المعصية التي أخرجته من الجنة، وروي أن اللّه تعالى قال له :«يا آدم إني عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها فتحملها أنت بما فيها». قال : وما فيها؟ قال :«إن أحسنت أجرت وإن أسأت عوقبت»، قال نعم قد حملتها. قال ابن عباس فما بقي له قدر ما بين الأولى إلى العصر حتى عصى ربه، وقال ابن عباس وابن مسعود الْإِنْسانُ ابن آدم قابيل الذي قتل أخاه وكان قد تحمل الأمانة لأبيه أن يحفظ الأهل بعده، وكان آدم سافر إلى مكة في حديث طويل ذكره الطبري وغيره، وقال بعضهم الْإِنْسانُ النوع كله وهذا حسن مع عموم الأمانة، وقال الزجاج معنى الآية إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ في نواهينا وأوامرنا على هذه المخلوقات فقمن بأمرنا وأطعن فيما كلفناها وتأبين من حمل المذمة في معصيتنا، وحمل الإنسان المذمة فيما كلفناه من أوامرنا وشرعنا.
قال الفقيه الإمام القاضي : والْإِنْسانُ على تأويله الكافر والعاصي، وتستقيم هذه الآية مع قوله تعالى : أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت : ١١] فعلى التأويل الأول الذي حكيناه عن الجمهور يكون قوله تعالى :
أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت : ١١] إجابة لأمر أمرت به، وتكون هذه الآية إباية وإشفاقا من أمر عرض عليها وخيرت فيه، وروي أن اللّه تعالى عرض الأمانة على هذه المخلوقات فأبت، فلما عرضها اللّه تعالى على آدم قال : أنا أحملها بين أذني وعاتقي، فقال اللّه تعالى له : إني سأعينك قد جعلت لبصرك حجابا فأغلقه عما لا يحل لك ولفرجك لباسا فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك.
قال الفقيه الإمام القاضي : وفي هذا المعنى أشياء تركتها اختصارا لعدم صحتها، وقال قوم : إن الآية من المجاز، أي إنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السماوات والأرض والجبال رأينا أنها لا تطيقها وأنها لو تكلمت