المحرر الوجيز، ج ٤، ص : ٤١٨
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٢٣]
وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣)
المعنى أن كل من دعوتم إلها من دون اللّه لا يملكون مثقال ذرة ولا تنفع شفاعتهم إلا بإذن فيمن آمن، فكأنه قال ولا هم شفعاء على الحد الذي ظننتم أنتم واختلف المتأولون في قوله تعالى : إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ فقالت فرقة معناه لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أن يشفع، فيه، وقالت فرقة معناه لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أن يشفع هو.
قال القاضي أبو محمد : واللفظ يعمهما، لأن الإذن إذا انفرد للشافع فلا شك أن المشفوع فيه معين له، وإذا انفرد للمشفوع فيه فالشافع لا محالة عالم معين لذلك، وانظر أن اللام الأولى تشير إلى المشفوع فيه من قوله لِمَنْ تقول شفعت لفلان، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «أذن» بضم، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر «أذن» بفتحها، والضمير في قُلُوبِهِمْ عائد على الملائكة الذين دعوهم آلهة، ففي الكلام حذف يدل عليه الظاهر فكأنه قال ولا هم شفعاء كما تحسبون أنتم بل هم عبدة مستسلمون أبدا حتى إذا فزع عن قلوبهم.
قال الفقيه الإمام القاضي : وتظاهرت الأحاديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن هذه الآية أعني قوله حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ إنما هي الملائكة إذا سمعت الوحي إلى جبريل وبالأمر يأمر به سمعت كجر سلسلة الحديد على صفوان فتفزع عند ذلك تعظيما وهيبة، وقيل خوف أن تقوم الساعة فإذا فزع ذلك فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ أي أطير الفزع عنها وكشف فيقول بعضهم لبعض ولجبريل ماذا قالَ رَبُّكُمْ فيقول المسئولون قال الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ وبهذا المعنى من ذكر الملائكة في صدر الآيات تتسق هذه الآية على الأولى، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله الَّذِينَ زَعَمْتُمْ [سبأ : ٢٢] لم تتصل لهم هذه الآية بما قبلها فلذلك اضطرب المفسرون في تفسيرها حتى قال بعضهم في الكفار بعد حلول الموت فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ بفقد الحياة فرأوا الحقيقة وزال فزعهم من شبه ما يقال لهم في حياتهم، فيقال لهم حينئذ ماذا قالَ رَبُّكُمْ فيقولون قال الْحَقَّ يقرون حين لا ينفعهم الإقرار، وقالت فرقة الآية في جميع العالم، وقوله حَتَّى إِذا يريد في القيامة.
قال الفقيه الإمام القاضي : والتأويل الأول في الملائكة هو الصحيح وهو الذي تظاهرت به الأحاديث، وهذان بعيدان، وقرأ جمهور القراء «فزع» بضم الفاء ومعناه أطير الفزع عنهم، وهذه الأفعال جاءت مخالفة لسائر الأفعال، لأن فعل أصلها الإدخال في الشيء كعلمت ونحوها وقولك : فزعت زيدا معناه أزلت الفزع عنه، وكذلك جزعته معناه أزلت الجزع عنه، ومنه الحديث فدخل ابن عباس على عمر بجزعة ومنه مرضت فلانا أي أزلت عنه المرض.
قال الفقيه الإمام القاضي : وانظر أن مطاوع هذه الأفعال يلحق بتحنث وتحرج وتفكه وتأثم وتخوف، وقرأ ابن عامر «فزّع» بفتح الفاء وشد الزاي وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وطلحة وأبي المتوكل الناجي واليماني، وقرأ الحسن البصري بخلاف «فزع» بضم الفاء وكسر الزاي وتخفيفها كأنه بمعنى أقلع، ومن قال بأنها في العالم أجمعه قال معنى هذه القراءة فزع الشيطان عن قلوبهم أي بادر، وقرأ أيوب عن الحسن أيضا