المحرر الوجيز، ج ٤، ص : ٥٢٣
للقانت، ولا يوقف على التأويل على قوله : رَحْمَةَ رَبِّهِ، وهذا معنى صحيح، إلا أنه أجنبي من معنى الآيات قبله وبعده، وضعفه أبو علي الفارسي. وقال مكي : إنه لا يجوز عند سيبويه، لأن حرف النداء لا يسقط مع المبهم وليس كما قال مكي، أما مذهب سيبويه في أن حرف النداء لا يسقط مع الميم، فنعم، لأنه يقع الإلباس الكثير بذلك، وأما أن هذا الموضع سقط فيه حرف النداء فلا، والألف ثابتة فيه ظاهرة، وأما القراءة بتشديد الميم فإنها :«أم» دخلت على :«من» والكلام على هذه القراءة لا يحتمل إلا المعادلة بين صنفين، فيحتمل أن يكون ما يعادل «أم» متقدما في التقدير، كأنه يقول : أهذا الكافر خير أم من، ويحتمل أن تكون «أم» قد ابتدأ بها بعد إضراب مقدر ويكون المعادل في آخر الكلام، والأول أبين.
والقانت : المطيع، وبهذا فسر ابن عباس رضي اللّه عنه، والقنوت في كلام العرب : يقع على القراءة وعلى طول القيام في الصلاة، وبهذا فسرها ابن عمر رضي اللّه عنه، وروي عن ابن عباس أنه قال : من أحب أن يهون اللّه عليه الوقوف يوم القيامة، فليره اللّه في سواد الليل ساجدا أو قائما، ويقع القنوت على الدعاء وعلى الصمت عبادة. وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أن القنوت : الطاعة.
وقال جابر بن عبد اللّه : سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أي الصلاة أفضل؟ فقال :«طول القنوت».
والآناء : الساعات، واحدها : أني كمعى ومنه قولهم : لن يعدو شيء أناه، ومنه قوله تعالى : غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الأحزاب : ٥٣] على بعض التأويلات في ذلك ويقال في واحدها أيضا : أنى على وزن قفى، ويقال فيه أيضا : إني بكسر الهمزة وسكون النون، ومنه قول الهذلي :[البسيط]
حلو ومر كعطف القدح مرته في كل إني حداه الليل ينتعل
وقرأ الضحاك :«ساجد وقائم» بالرفع فيهما.
وقوله تعالى : يَحْذَرُ الْآخِرَةَ معناه يحذر حالها وهولها. وقرأ سعيد بن جبير :«يحذر عذاب الآخرة» وأُولُوا معناه أصحاب الألباب، واحدهم : ذو.
وقرأ جمهور القراء :«قل يا عبادي» بفتح الياء. وقرأ أبو عمرو وعاصم والأعمش :«يا عبادي» بياء ساكنة. وقرأ أبو عمرو أيضا وعاصم والأعمش وابن كثير :«يا عباد» بغير ياء في الوصل.
ويروى أن هذه الآية نزلت في جعفر بن أبي طالب رضي اللّه عنه وأصحابه حين عزموا على الهجرة إلى أرض الحبشة. ووعد تعالى بقوله : لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ ويحتمل أن يكون قوله :
فِي هذِهِ الدُّنْيا، متعلقا ب أَحْسَنُوا، فكأنه يريد أن الذين يحسنون في الدنيا لهم حسنة في الآخرة وهي الجنة والنعيم، قاله مقاتل، ويحتمل أن يريد : أن الذين يحسنون لهم حسنة في الدنيا وهي العاقبة والظهور وولاية اللّه تعالى، قاله السدي. وكان قياس قوله أن يكون في هذه الدنيا متأخرا ويجوز تقديمه، والأول أرجح أن الحسنة هي في الآخرة. وَأَرْضُ اللَّهِ يريد بها البلاد المجاورة التي تقتضيها القصة التي في الكلام فيها، وهذا حض على الهجرة، ولذلك وصف اللّه الأرض بالسعة. وقال قوم : أراد ب «الأرض» هنا الجنة، وفي هذا القول تحكم لا دليل عليه.
ثم وعد تعالى على الصبر على المكاره والخروج عن الوطن ونصرة الدين وجميع الطاعات : بأن