المحرر الوجيز، ج ٤، ص : ٥٢٨
وقوله تعالى : تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ عبارة عن قفّ شعر الإنسان عند ما يداخله خوف ولين قلب عند سماع موعظة أو زجر قرآن ونحوه، وهذه علامة وفزع المعنى المخشع في قلب السامع، وفي الحديث أن أبي بن كعب قرأ عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فرقت القلوب، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها رحمة. وقال العباس بن عبد المطلب : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :«من اقشعر جلده من خشية اللّه تحاتت عنه ذنوبه كما يتحاتّ عن الشجرة اليابسة ورقها». وقالت أسماء بنت أبي بكر : كان أصحاب الرسول صلى اللّه عليه وسلم تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم عند سماع القرآن، قيل لها : إن أقواما اليوم إذا سمع أحدهم القرآن خر مغشيا عليه، فقالت : أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم وقال ابن عمر : وقد رئي ساقطا عند سماع القرآن فقال : إنا لنخشى اللّه وما نسقط، هؤلاء يدخل الشيطان في جوف أحدهم. وقال ابن سيرين : بيننا وبين هؤلاء الذين يصرعون عند قراءة القرآن أن يجعل أحدهم على حائط باسطا رجليه ثم يقرأ القرآن كله، فإن رمى بنفسه فهو صادق.
وقوله : ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يحتمل أن يشير إلى القرآن، أي ذلك الذي هذه صفته هدى اللّه، ويحتمل أن يشير إلى الخشية واقشعرار الجلود، أي ذلك أمارة هدى اللّه، ومن جعل تَقْشَعِرُّ في موضع الصفة لم يقف على مَثانِيَ، ومن جعله مستأنفا وإخبارا منقطعا وقف على مَثانِيَ وباقي الآية بين.
قوله عز وجل :
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٢٤ الى ٢٨]
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨)
هذا تقرير بمعنى التعجيب، والمعنى : أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ كالمنعمين في الجنة.
واختلف المتأولون في قوله : يَتَّقِي بِوَجْهِهِ فقال مجاهد : يخر على وجهه في النار. وقالت فرقة :
ذلك لما روي أن الكافر يلقى في النار مكتوفا مربوطة يداه إلى رجليه مع عنقه ويكب على وجهه، فليس له شيء يتقي به إلا الوجه. وقالت فرقة : المعنى صفة كثرة ما ينالهم من العذاب، وذلك أنه يتقيه بجميع جوارجه ولا يزال العذاب يتزيد حتى يتقيه بوجهه الذي هو أشرف جوارجه وفيه حواسه، فإذا بلغ به العذاب إلى هذه الغاية ظهر أنه لا متجاوز بعدها.
قال القاضي أبو محمد : وهذا المعنى عندي أبين بلاغة، وفي هذا المضمار يجري قول الشاعر :
[الكامل ]
يلقى السيوف بوجهه وبنحره ويقيم هامته مقام المغفر


الصفحة التالية
Icon