المحرر الوجيز، ج ٥، ص : ١٢٢
قوله عز وجل :
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥)
روي أن هذه الآية نزلت في بني أسد من العرب، وذلك أنهم أسلموا وقالوا لرسول اللّه عليه السلام :
نحن قد آثرناك على كل شيء وجئناك بنفوسنا وأهلنا، كأنهم منوا بذلك، فنزل فيهم : يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا [الحجرات : ١٧] ونزلت فيهم هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد : فإن كان هذا فالإبطال الذي نهوا عنه ليس بمعنى الإفساد التام، لأن الإفساد التام لا يكون إلا بالكفر، وإلا فالحسنات لا تبطلها المعاصي، وإن كانت الآية عامة على ظاهرها نهي الناس عن إبطال أعمالهم بالكفر، والإبطال هو الإفساد التام.
وقوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ روي أنها نزلت بسبب عدي بن حاتم قال : يا رسول اللّه إن حاتما كانت له أفعال بر فما حاله؟ فقال رسوله اللّه صلى اللّه عليه وسلم «هو في النار»، فبكى عدي وولى، فدعاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال له : أبي وأبوك وأبو إبراهيم خليل الرحمن في النار ونزلت هذه الآية في ذلك، وظاهر الآية العموم في كل ما تناولته الصفة.
وقوله تعالى : فَلا تَهِنُوا معناه : فلا تضعفوا، من وهن الرجل إذا ضعف.
وقرأ جمهور الناس :«و تدعوا» وقرأ أبو عبد الرحمن :«و تدّعوا» بشد الدال. وقرأ جمهور القراء :«إلى السلم» بفتح السين. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم :«إلى السلم» بكسر السين. وهي قراءة الحسن وأبي رجاء والأعمش وعيسى وطلحة وهو بمعنى المسالمة. وقال الحسن بن أبي الحسن وفرقة ممن كسر السين إنه بمعنى إلى الإسلام، أي لا تهنوا وتكونوا داعين إلى الإسلام فقط دون مقاتلين بسببه. وقال قتادة معنى الآية : لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت للأخرى.
قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن ملتئم مع قوله : وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الأنفال : ٦١].
وقوله : وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ يحتمل موضعين أحدهما : أن يكون في موضع الحال، المعنى : لا تهنوا وأنتم في هذه الحال. والمعنى الثاني : أن يكون إخبارا بنصره ومعونته. و«يتر»، معناه ينقص ويذهب، ومنه قوله عليه السلام :«من ترك صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» أي ذهب بجميع ذلك على جهة التغلب والقهر، والمعنى : لن يتركم ثواب أعمالكم وجزاء أعمالكم. واللفظة مأخوذة من الوتر الذي هو الدحل، وذهب قوم إلى أنه مأخوذ من الوتر الذي هو الفرد، المعنى لن يفردكم من ثواب أعمالكم، والأول أصح، وفسر ابن عباس وأصحابه يَتِرَكُمْ بيظلمكم.