المحرر الوجيز، ج ٥، ص : ١٤٥
الأمراء، وعموم اللفظ أحسن، أي اجعلوه مبدأ في الأقوال والأفعال. و: سَمِيعٌ معناه : لأقوالكم.
عَلِيمٌ معناه : بأفعالكم ومقتضى أقوالكم.
وقوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا الآية هي أيضا في ذلك الفن المتقدم، وروى حيح أنها نزلت بسبب عادة الأعراب من الجفاء وعلو الصوت والعنجهية، وكان ثابت بن قيس بن شماس رضي اللّه عنه في صوته جهارة، فلما نزلت هذه الآية اهتم وخاف على نفسه وجلس في بيته لم يخرج، وهو كئيب حزين حتى عرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خبره فبعث فيه فأنسه وقال له :«امش في الأرض بسطا فإنك من أهل الجنة». وقال له مرة :«أما ترضى أن تعيش حميدا وتموت شهيدا»، فعاش كذلك، ثم قتل باليمامة يوم مسيلمة. وفي قراءة ابن مسعود :«لا ترفعوا بأصواتكم» بزيادة الباء.
وقوله : كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أي كحال جهركم في جفائه وكونه مخاطبة بالأسماء والألقاب، وكانوا يدعون النبي صلى اللّه عليه وسلم. با محمد يا محمد، قاله ابن عباس وغيره، فأمرهم اللّه بتوقيره، وأن يدعوه بالرسالة والنبوءة والكلام اللين، فتلك حالة الموقر، وكره العلماء رفع الصوت عند قبر النبي صلى اللّه عليه وسلم. وبحضرة العالم وفي المساجد، وفي هذه كلها آثار.
وقوله تعالى : أَنْ تَحْبَطَ مفعول من أجله، أي مخافة أَنْ تَحْبَطَ، والحبط : إفساد العمل بعد تقرره، يقال حبط بكسر الباء وأحبطه اللّه، وهذا الحبط إن كانت الآية معرضة بمن يفعل ذلك استخفافا واستحقارا وجرأة فذلك كفر. والحبط معه على حقيقته، وإن كان التعريض للمؤمن الفاضل الذي يفعل ذلك غفلة وجريا على طبعه، فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي صلى اللّه عليه وسلم وغض الصوت عنده أن لو فعل ذلك، فكأنه قال : أن تحبط الأعمال التي هي معدة أن تعملوها فتؤجروا عليها. ويحتمل أن يكون المعنى : أن تأثموا ويكون ذلك سببا إلى الوحشة في نفوسكم، فلا تزال معتقداتكم تتجرد القهقرى حتى يؤول ذلك إلى الكفر فتحبط الأعمال حقيقة. وظاهر الآية أنها مخاطبة لفضلاء المؤمنين الذين لا يفعلون ذلك احتقارا، وذلك أنه لا يقال لمنافق يعمل ذلك جرأة وأنت لا تشعر، لأنه ليس له عمل يعتقده هو عملا. وفي قراءة عبد اللّه بن مسعود :«فتحبط أعمالكم».
ثم مدح الصنف المخالف لمن تقدم ذكره، وهم الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عند النبي صلى اللّه عليه وسلم. وغض الصوت : خفضه وكسره، وكذلك البصر، ومنه قول جرير :[الوافر] فغض الطرف إنك من نمير وروي أن أبا بكر وعمر كانا بعد ذلك لا يكلمان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا كأخي السرار، وأن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يحتاج مع عمر بعد ذلك إلى استعادة اللفظ، لأنه كان لا يسمعه من إخفائه إياه. و: امْتَحَنَ اللَّهُ معناه اختبر وظهر كما يمتحن الذهب بالنار فيسرها وهيأها للتقوى. وقال عمر بن الخطاب : امتحن للتقوى أذهب عنها الشهوات.
قال القاضي أبو محمد : من غلب شهوته وغضبه، فذلك الذي امْتَحَنَ اللَّهُ قلبه للتقوى، وبذلك تكون الاستقامة.


الصفحة التالية
Icon