المحرر الوجيز، ج ٥، ص : ١٥٢
اللّه. والغيبة مشتقة من غاب يغيب. وهي القول في الغائب واستعملت في المكروه. ولم يبح في هذا المعنى إلا ما تدعو الضرورة إليه من تجريح في الشهود وفي التعريف لمن استنصح في الخطاب ونحوهم لقول النبي صلى اللّه عليه وسلم :«أما معاوية فصعلوك لا مال له». وما يقال في الفسقة أيضا وفي ولاة الجور ويقصد به التحذير منه. ومنه قول النبي صلى اللّه عليه وسلم :«أعن الفاجر ترعون؟ اذكروا الفاجر بما فيه حتى يعرفه الناس إذا لم تذكروه» ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم :«بئس ابن العشيرة». ثم مثل تعالى الغيبة بأكل لحم ابن آدم الميت، والعرب تشبه الغيبة بأكل اللحم. فمنه قول الشاعر [سويد بن أبي كاهل اليشكري ] :[الرمل ]
فإذا لاقيته عظّمني وإذا يخلو له لحمي رتع
ويروى فيحييني إذا لاقيته.
ومنه قول الآخر :[المقنع الكندي ].
وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
فوقفهم اللّه تعالى على جهة التوبيخ بقوله : أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فالجواب عن هذا : لا. وهم في حكم من يقولها. فخوطبوا على أنهم قالوا لا. فقيل لهم : فَكَرِهْتُمُوهُ وبعد هذا مقدر تقديره : فكذلك فاكرهوا الغيبة التي هي نظير ذلك. وعلى هذا المقدر يعطف قوله : وَاتَّقُوا اللَّهَ قاله أبو علي الفارسي. وقال الرماني : كراهية هذا اللحم يدعو إليها الطبع. وكراهية الغيبة يدعو إليها العقل. وهو أحق أن يجاب. لأنه بصير عالم. والطبع أعمى جاهل.
وقرأ الجمهور :«ميتا» بسكون الياء. وقرأ نافع وابن القعقاع وشيبة ومجاهد :«ميّتا» بكسرها والشد.
وقرأ أبو حيوة :«فكرّهتموه» بضم الكاف وشد الراء.
ورواها أبو سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. ثم أعلم بأنه تَوَّابٌ رَحِيمٌ إبقاء منه تعالى وإمهالا وتمكينا من التوبة.
قوله عز وجل :
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١٣ الى ١٤]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤)
قوله تعالى : مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى يحتمل أن يريد آدم وحواء. فكأنه قال : إنا خلقنا جميعكم من آدم وحواء. ويحتمل أن يريد الذكر والأنثى اسم الجنس. فكأنه قال : إنا خلقنا كل واحد منكم من ماء ذكر وماء أنثى. وقصد هذه الآية التسوية بين الناس. ثم قال تعالى : وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا أي لئلا تفاخروا ويريد بعضكم أن يكون أكرم من بعض. فإن الطريق إلى الكرم غير هذا : إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ وروى أبو بكرة : قيل يا رسول اللّه : من خير الناس؟ قال :«من طال عمره وحسن عمله». وفي