المحرر الوجيز، ج ٥، ص : ٢٧٩
في سائر المجالس التي هي للطاعات، ومنه قول النبي صلى اللّه عليه وسلم :«أحبكم إلى اللّه ألينكم مناكب في الصلاة وركبا في المجالس»، وهذا قول مالك رحمه اللّه وقال : ما أرى الحكم إلا يطرد في مجالس العلم ونحوها غابر الدهر، ويؤيد هذا القول قراءة من قرأ :«في المجالس»، ومن قرأ :«في المجلس» فذلك على هذا التأويل اسم جنس فالسنة المندوب إليها هي التفسح والقيام منهي عنه في حديث النبي صلى اللّه عليه وسلم حيث نهى أن يقوم الرجل فيجلس الآخر مكانه، فأما القيام إجلالا فجائز بالحديث قوله عليه السلام حين أقبل سعد بن معاذ :«قوموا إلى سيدكم»، وواجب على المعظم ألا يحب ذلك ويأخذ الناس به لقوله عليه السلام :«من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار».
وقوله تعالى : يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ معناه : في رحمته وجنته، وقوله تعالى : وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا معناه : إذا قيل لكم ارتفعوا وقوموا فافعلوا ذلك، ومنه نشوز العظام أي نباتها، والنشز من الأرض المرتفع، واختلف الناس في هذا النشوز الذي أمروا بامتثاله إذا دعوا إليه. فقال الحسن وقتادة والضحاك معناه : إذا دعوا إلى قتال أو طاعة أو صلاة ونحوه، وقال آخرون معناه : إذا دعوا إلى القيام عن النبي عليه السلام لأنه كان أحيانا يحب الانفراد في آمر الإسلام فربما جلس قوم وأراد كل واحد أن يكون آخر الناس عهدا بالنبي عليه السلام، فنزلت الآية آمرة بالقيام عنه متى فهم ذلك بقول أو فعل، وقال آخرون معناه : انْشُزُوا في المجلس بمعنى التفسح لأن الذي يريد التوسعة يرتفع إلى فوق في الهواء فإذا فعل ذلك جملة اتسع الموضع، فيجيء انْشُزُوا في غرض واحد مع قوله تَفَسَّحُوا، وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم :«انشزوا» برفع الشين وهي قراءة أبي جعفر وشيبة او الأعرج. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي بكسر السين فيهما، وهي قراءة الحسن والأعمش وطلحة. يقال : نشز ينشز كحشر يحشر ويحشر وعكف يعكف ويعكف.
وقوله يَرْفَعِ اللَّهُ جواب الأمر، واختلف الناس في ترتيب قوله تعالى : الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ فقال جماعة من المتأولين المعنى : يَرْفَعِ اللَّهُ المؤمنين العلماء منكم دَرَجاتٍ، فلذلك أمر بالتفسح من أجلهم، ويجيء على هذا قوله : وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ بمنزلة قولك جاءني العاقل والكريم والشجاع، وأنت تريد بذلك رجلا واحدا، وقال آخرون المعنى : يَرْفَعِ اللَّهُ المؤمنين والعلماء الصنفين جميعا دَرَجاتٍ لكنا نعلم تفاضلهم في الدرجات من مواضع أخرى ولذلك جاء الأمر بالتفسح عاما للعلماء وغيرهم، وقال عبد اللّه بن مسعود وغيره : يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وتم القول، ثم ابتدأ بتخصيص العلماء بالدرجات ونصبهم بإضمار فعل، فالمؤمنون رفع على هذا التأويل وللعلماء درجات، وعلى هذا التأويل قال مطرف بن عبد اللّه بن الشخير : فضل العلم أحب إلى من فضل العبادة وخير دينكم الورع، ثم توعد تعالى وحذر بقوله : وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، وقوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ الآية. روي عن ابن عباس وقتادة في سببها أن قوما من شباب المؤمنين وأغفالهم كثرت مناجاتهم للنبي صلى اللّه عليه وسلم في غير حاجة إلا لتظهر منزلتهم وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سمحا لا يرد أحدا فنزلت هذه الآية مشددة عليهم أمر المناجاة، وقال مقاتل : نزلت في الأغنياء لأنهم غلبوا الفقراء على مناجاة النبي صلى اللّه عليه وسلم. وقال جماعة من الرواة : لم يعمل بهذه الآية بل نسخت قبل العمل لكن استقر حكمها بالعزم عليه كأمر إبراهيم عليه السلام في ذبح ابنه، وصح


الصفحة التالية
Icon