المحرر الوجيز، ج ٥، ص : ٢٩٠
وفي قلوبهم أشتات»، وهذه حال الجماعات المتخاذلة وهي المغلوبة أبدا فيما يحاول، واللفظة مأخوذة من الشتات وهو التفرق ونحوه، وقوله تعالى : كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ معناه مثلهم كَمَثَلِ، والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، قال ابن عباس : هم بنو قينقاع، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم أجلاهم عن المدينة قبل بني النضير وكانوا مثلا لهم، وقال قتادة ومجاهد : الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أهل بدر الكفار فإنهم قبلهم ومثل لهم في أن غلبوا وقهروا، وقال بعض المتأولين : الضمير في قوله قَبْلِهِمْ للمنافقين، والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هم منافقوا الأمم المتقدمة وذلك أنهم غلبوا ونالتهم الذلة على وجه الدهر فهم مثل لهؤلاء، ولكن قوله قَرِيباً إما أن يكون في زمن موسى وإلا فالتأويل المذكور يضعف، إلا أن تجعل قَرِيباً ظرفا للذوق، فيكون التقدير ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ قَرِيباً من عصيانهم وبحدثانه، ولا يكون المعنى أن المثل قريب في الزمن من الممثل له، وعلى كل تأويل ف قَرِيباً ظرف أو نعت لظرف والوبال : الشدة والمكروه وعاقبة السوء، و«العذاب الأليم» : هو في الآخرة، وقوله تعالى : كَمَثَلِ الشَّيْطانِ معناه مثل هاتين الفرقتين من المنافقين وبني النضير كَمَثَلِ الشَّيْطانِ والإنسان، فالمنافقون مثلهم الشيطان وبنو النضير مثلهم الإنسان، وذهب مجاهد وجمهور من المتأولين إلى أن «الشيطان» و«الإنسان» في هذه الآية أسماء جنس لأن العرف أن يعمل هذا شياطين بناس كما يغوي الشيطان الإنسان ثم يفر منه بعد أن يورطه، كذلك أغوى المنافقون بني النضير وحرضوهم على الثبوت ووعدوهم النصر، فلما نشب بنو النضير وكشفوا عن وجوههم تركهم المنافقون في أسوأ حال، وذهب قوم من رواة القصص أن هذا شيطان مخصوص مع عابد من العباد مخصوص، وذكر الزجاج أن اسمه برصيص، قالوا إنه استودع امرأة وقيل سيقت إليه ليشفيها بدعائه من الجنون
فسول له الشيطان الوقوع عليها فحملت، فخشي الفضيحة، فسول له قتلها ودفنها، ففعل ثم شهره، فلما استخرجت المرأة وحمل العابد شر حمل وهو قد قال :
إنها قد ماتت فقمت عليها ودفنتها، فلما وجدت مقتولة علموا كذبه فتعرض له الشيطان فقال له :
اكفر واسجد لي وأنجيك، ففعل وتركه عند ذلك. وقال إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ، وهذا كله حديث ضعيف، والتأويل الأول هو وجه الكلام وقول الشيطان : إِنِّي أَخافُ اللَّهَ، رياء من قوله وليست على ذلك عقيدته، ولا يعرف اللّه حق معرفته ولا يحجزه خوفه عن سوء يوقع فيه ابن آدم من أول إلا آخر، وقوله تعالى : فَكانَ عاقِبَتَهُما الآية، يحتمل الضمير أن يعود على المخصوصين المذكورين، ويحتمل أن يعود على اسمي الجنس أي هذا هو عاقبة كل شيطان وإنسان يكون أمرهما هكذا، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد :
«عاقبتهما» بالرفع، وقرأ جمهور الناس :«عاقبتهما» بالنصب وموضع أن يخالف إعراب المعاقبة في القراءتين إن شاء اللّه تعالى، وقرأ الأعمش وابن مسعود :«خالدان» بالرفع على أنه خبر «أن»، والظرف ملغى، ويلحق هذه الآية من الاعتراض إلغاء الظرف مرتين قاله الفراء، وذلك جائز عند سيبويه على التأكيد.
قوله عز وجل :
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ١٨ الى ٢١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١)