المحرر الوجيز، ج ٥، ص : ٣٠٢
موجب مقت اللّه تعالى، ولذلك فر كثير من العلماء عن الوعظ والتذكير وآثروا السكوت، ثم وكد تعالى الإخبار بمحبته للمقاتلين صَفًّا، ومحبة اللّه تعالى هي ما يظهر عليهم من نصره وكرامته وهي صفة فعل وليست بمعنى الإرادة، لأن الإرادة لا يصح أن يقع ما يخالفها، ونحن نجد المقاتلين على غير هذه الصفة كثيرا، وقال بعض الناس : قتال الرجالة أفضل من قتال الفرسان لأن التراص فيه يتمكن، وهذا ضعيف خفي على قائله مقصد الآية، وليس المراد نفي التصاف وإنما المقصد الجد في كل أوطان القتال وأحواله، وقصد بالذكر أشد الأحوال وهي الحالة التي تحوج إلى القتال صَفًّا متراصا، ونابت هذه الحال المذكورة مناب جميع الأحوال، وقضت الآية بأن الذين يبلغ جدهم إلى هذه الحال حريون بأن لا يقصروا عن حال، و«المرصوص» المصفوف المتضام، وقال أبو بحرية رحمه اللّه : إذا رأيتموني ألتفت في الصف فجبوا فؤادي ومنه قول الشاعر [ابن أبي العنبس الثقفي ] :[مجزوء الكامل ]
وبالشعب بين صفائح صم ترصص بالجنوب
وقال منذر بن سعيد والبراء وغيره :«المرصوص» المعقود بالرصاص، وهذا يحتمل أن يكون أصل اللفظة، ثم ذكر اللّه تعالى مقالة موسى وذلك ضرب مثل للمؤمنين الذين يقولون ما لا يفعلون ذكرهم اللّه تعالى بقوم آذوا نبيهم على علم منهم بنبوته وزاغُوا ف أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، أي فاحذروا أيها المؤمنون أن يصيركم العصيان، وقول الباطل إلى مثل حالهم، وقال أبو أمامة : هم الخوارج، وقال سعد بن أبي وقاص : هم الحرورية، المعنى : أنهم أشباههم في أنهم لما زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، وقوله لِمَ تُؤْذُونَنِي تقرير، والمعنى تُؤْذُونَنِي بتعنيتكم وعصيانكم واقتراحاتكم، وهذه كانت أفعال بني إسرائيل، وانظر إنه تعالى أسند الزيغ إليهم لكونه فعل حطيطة، كما قال اللّه تعالى : نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ [الحشر : ١٩] وهذا يخالف قوله تعالى : ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا [التوبة : ١١٨] فأسند التوبة إلى نفسه لكونها فعل رفعة ومنه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام : وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء : ٨٠]، و«زاغ» معناه : مال، وصار عرفها في الميل عن الحق، وأَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ معناه :
طبع عليها وختم وكثر ميلها عن الحق، وهذه العقوبة على الذنب بالذنب، وأمال ابن أبي إسحاق :
زاغُوا.
قوله عز وجل :
[سورة الصف (٦١) : الآيات ٦ الى ٨]
وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨)
المعنى :«و اذكر يا محمد إذ قال عيسى»، وهذا مثل آخر ضربه اللّه تعالى لكفار قريش، وحكي عن موسى أنه قال : يا قَوْمِ [الصف : ٥] وعن عيسى أنه قال : يا بَنِي إِسْرائِيلَ من حيث لم يكن له فيهم