المحرر الوجيز، ج ٥، ص : ٣٢٣
تعالى : فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أي لاستقبال عدتهن وقوامها وتقريبها عليهن، وقرأ عثمان وابن عباس وأبي بن كعب وجابر بن عبد اللّه ومجاهد وعلي بن الحسين وزيد بن علي وجعفر بن محمد :«فطلقوهن في قبل عدتهن»، وروي عن بعضهم وعن ابن عمر «لقبل طهرهن»، ومعنى هذه الآية، أن لا يطلق أحد امرأته إلا في طهر لم يمسها فيه، هذا على مذهب مالك وغيره ممن قال : بأن الأقراء الاطهار فيطلق عندهم المطلق في طهر لم يمس فيه وتعتد به المرأة، ثم تحيض حيضتين تعتد بالطهر الذي بينهما، ثم يقيم في الطهر الثالث معتدة به، فإذا رأت أول الحيضة الثالثة حلت، ومن قال : بأن الإقراء الحيض وهم العراقيون قال : لِعِدَّتِهِنَّ، معناه أن تطلق طاهرا، فتستقبل ثلاث حيض كوامل، فإذا رأت الطهر بعد الثالثة حلت ويخف عند هؤلاء مس في طهر الطلاق أو لم يمس، وكذلك مالك يقول : إن طلق في طهر قد مس فيه معنى الطلاق، ولا يجوز طلاق الحائض، لأنها تطول العدة عليها، وقيل بل ذلك تعبد ولو علل بالتطويل لا ينبغي أن يجوز إذا رضيته، والأصل في ذلك حديث عبد اللّه بن عمر قال : طلقت امرأتي وهي حائض، فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال لعمر :«مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم يطلقها إن شاء، فتلك العدة التي أمر اللّه تعالى أن يطلق لها النساء».
وروى حذيفة أنه عليه السلام قال :«طلقوا المرأة في قبل طهرها»، ثم أمره تعالى بإحصاء العدة لما يلحق ذلك من أحكام الرجعة والسكنى والميراث وغير ذلك، ثم أخبر تعالى بأنهن أحق بسكنى بيوتهن التي طلقن فيها، فنهى عن إخراجهن وعن خروجهن، وسنة ذلك أن لا تبيت المرأة المطلقة عن بيتها ولا تغيب عنه نهارا إلا في ضرورة، ومما لا خطب له من جائز التصرف وذلك لحفظ النسب والتحرز بالنساء، فإن كان البيت ملكا للزوج أو بكراء منه فهذا حكمه، فإن كان لها فعليه الكراء، فإن كان قد أمتعته طول الزوجية ففي لزوم خروج العدة له قولان في المذهب اللزوم رعاية لانفصال مكارمة النكاح، والسقوط من أجل العدة من سبب النكاح، واختلف الناس في معنى قوله : إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فقال قتادة والحسن ومجاهد :
ذلك الزنا فيخرجن للحد، وهذا قول الشعبي وزيد بن أسلم وحماد والليث، وقال ابن عباس : ذلك النداء على الإحماء، فتخرج ويسقط حقها من السكنى وتلزم الإقامة في مسكن يتخذه حفظا للنسب. وفي مصحف أبي بن كعب «إلا أن يفحشن عليكم»، وقال ابن عباس أيضا الفاحشة جميع المعاصي، فمن سرقت أو قذفت أو زنت أو أربت في تجارة وغير ذلك فقد سقط حقها في السكنى، وقال السدي وابن عمر :
الفاحشة الخروج عن البيت، خروج انتقال، فمتى فعلت ذلك، فقد سقط حقها في السكنى، وقال قتادة أيضا : المعنى أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ في نشوز عن الزوج فيطلق بسبب ذلك، فلا يكون عليه سكنى. وقال بعض الناس الفاحشة متى وردت معرفة فهي الزنا، ومتى جاءت منكرة فهي المعاصي يراد بها سوء عشرة الزوج ومرة غير ذلك، وقرأ عاصم :«مبيّنة» بفتح الياء المشددة تقول : بان الأمر وبينته أنا على تضعيف التعدية، وقرأ الجمهور :«مبيّنة» بكسر الياء، تقول بان الشيء وبين بمعنى واحد، إلا أن التضعيف للمبالغة، ومن ذلك قولهم قد بين الصبح لذي عينين ي هذه الآية بين التوجه عبارة عما يوجد من التراجع، وجوز قوم أن يكون المعنى أَمْراً من النسخ، وفي ذلك بعد، وقوله تعالى : فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ يريد به آخر القروء، و«الإمساك بالمعروف» :
هو حسن العشرة في الإنفاق وغير ذلك، و«المفارقة بالمعروف» : هو أداء المهر والتمتيع ودفع جميع الحقوق والوفاء بالشروط وغير ذلك حسب نازلة، وقوله تعالى : وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ يريد على الرجعة، وذلك شرط في صحة الرجعة، وللمرأة منع الزوج من نفسها حتى يشهد، وقال ابن عباس المراد على الرجعة، والطلاق، لأن الإشهاد يرفع من النوازل إشكالات كثيرة، وتقييد تاريخ الإشهاد من الإشهاد، وقال النخعي : العدل : من لم تظهر منه ريبة، وهذا قول الفقهاء، والعدل حقيقة الذي لا يخاف إلا اللّه، وقوله تعالى : أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ أمر للشهود، وقوله تعالى : ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ إشارة إلى إقامة الشهادة، وذلك أن جميع فصول الأحكام والأمور فإنما تدور على إقامة الشهادة، وقوله تعالى : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ. قال علي بن أبي طالب وكثير من المتأولين نفي من معنى الطلاق، أي ومن لا يتعدى في الطلاق السنة إلى طلاق الثلاث وغير ذلك يجعل اللّه له مخرجا إن ندم بالرجعة المباحة ويرزقه ما يطعم أهله ويوسع عليه، ومن لا يتق اللّه فربما طلق وبت وندم، فلم يكن له مخرج وزال عليه رزق زوجته. وقد فسر ابن عباس نحو هذا فقال للمطلق ثلاثا : أنت لم تتق اللّه فبانت منك امرأتك ولا أرى لك مخرجا.
وقال ابن عباس أيضا معنى : يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً يخلصه من كرب الدنيا والآخرة، واختلف في ألفاظ رواية هذه القصة، قال ابن عباس للمطلق، لكن هذا هو المعنى، وقال بعض رواة الآثار : نزلت هذه الآية في عوف بن مالك الأشجعي وذلك أنه أسر ولده وقدر عليه رزقه، فشكا ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأمر بالتقوى، فقيل : لم يلبث أن تفلت ولده وأخذ قطيع غنم للقوم الذين أسروه، وجاء أباه، فسأل عوف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أتطيب له تلك الغنم؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : نعم. ونزلت الآية في ذلك. وقوله تعالى : وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، الآيات كلها عظة لجميع الناس، والحسب : الكافي المرضي، وقال ابن مسعود هذه أكثر الآيات حضّا على التفويض، وروي أن رجلا قال لعمر : ولّني مما ولاك اللّه، فقال له عمر : أتقرأ القرآن؟ قال : لا.
قال : فأنا لا أولي من لا يقرأ القرآن. فتعلم الرجل رجاء الولاية، فلما حفظ كثيرا من القرآن تخلف عن عمر فلقيه يوما فقال له عمر ما أبطأ بك؟ قال له تعلمت القرآن، فأغناني اللّه تعالى عن عمر وعن بابه. ثم قرأ هذه الآيات من هذه السورة. وقوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ بيان وحض على التوكل، أي لا بد من نفوذ أمر اللّه توكلت أيها المرء أو لم تتوكل قاله مسروق. فإن توكلت كفاك وتعجلت الراحة والبركة، وإن لم تتوكل وكلك إلى عجزك وتسخطك، وأمره في الوجهين نافذ، وقرأ داود بن هند ورويت عن أبي عمرو «بالغ أمره» برفع الأمر وحذف مفعول تقدير : بالغ أمره ما شاء، وقرأ جمهور السبعة :«بالغ أمره» بنصب الأمر وقرأ حفص والمفضل عن عاصم :«بالغ أمره» على الإضافة وترك التنوين في :«بالغ»، ورويت عن أبي عمرو، والأعمش، وهي قراءة طلحة بن مصرف، وقرأ جمهور الناس :«قدرا» بسكون الدال، وقرأ بعض القراء :«قدرا» بفتح الدال وهذا كله حض على التوكل.


الصفحة التالية
Icon