المحرر الوجيز، ج ٥، ص : ٣٧
لا كالذي لا يضر ولا ينفع من أوثانكم. ثم ذكر تعالى الآية الكبرى، الصنعة الدالة على الصانع، وذلك خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
وقوله تعالى : وَما بَثَّ فِيهِما يتخرج على وجوه، منها أن يريد إحداهما فيذكر الاثنين كما قال :
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن : ٢٢] وذلك إنما يخرج من الملح وحده، ومنها أن يكون تعالى قد خلق السماوات وبث دواب لا نعلمها نحن، ومنها أن يريد الحيوانات التي توجد في السحاب، وقد يقع أحيانا كالضفادع ونحوها، فإن السحاب داخل في اسم السماء. وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال في تفسير : وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ هم الناس والملائكة، وبعيد غير جار على عرف اللغة أن تقع الدابة على الملائكة.
وقوله تعالى : وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ يريد القيامة عند الحشر من القبور وقوله تعالى : وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ قرأ جمهور القراء :«فبما» بفاء، وكذلك هي في جل المصاحف. وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر وشيبة :«بما» دون فاء. وحكى الزجاج أن أبا جعفر وحده من المدنيين أثبت الفاء. قال أبو علي الفارسي :«أصاب»، من قوله :«و ما أصاب» يحتمل أن يكون في موضع جزم، وتكون ما شرطية، وعلى هذا لا يجوز حذف الفاء عند سيبويه، وجوز حذفها أبو الحسن الأخفش وبعض البغداديين على أنها مرادة في المعنى، ويحتمل أن يكون «أصاب» صلة لما، وتكون ما بمعنى الذي، وعلى هذا يتجه حذف الفاء وثبوتها، لكن معنى الكلام مع ثبوتها التلازم، أي لو لا كسبكم ما أصابتكم مصيبة، والمصيبة إنما هي بسبب كسب الأيدي، ومعنى الكلام مع حذفها يجوز أن يكون التلازم، ويجوز أن يعرى منه، وأما في هذه الآية فالتلازم مطرد مع الثبوت والحذف.
وأما معنى الآية فاختلف الناس فيه، فقالت فرقة : هي إخبار من اللّه تعالى بأن الرزايا والمصائب في الدنيا إنما هي مجازاة من اللّه تعالى على ذنوب المرء وخطاياه، وأن اللّه تعالى يعفو عن كثير فلا يعاقب عليه بمصيبة، وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم :«لا يصيب ابن آدم خدش عود أو عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو عنه أكثر»، وقال عمران بن حصين وقد سئل عن مرضه إن أحبه إلي أحبه إلي اللّه، وهذا بما كسبت يداي، وعفو ربي كثير. وقال مرة الهمداني : رأيت على ظهر كف شريح قرحة فقلت ما هذا؟ قال هذا بما كسبت يدي وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ، وقيل لأبي سليمان الداراني : ما بال الفضلاء لا يلومون من أساء إليهم؟ فقال لأنهم يعلمون أن اللّه تعالى هو الذي ابتلاهم بذنوبهم. وروي عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال :«إن اللّه أكرم من أن يثني على عبده العقوبة إذا أصابته في الدنيا بما كسبت يداه». وقال الحسن بن أبي الحسن، معنى الآية في الحدود : أي ما أصابكم من حد من حدود اللّه، وتلك مصائب تنزل بشخص الإنسان ونفسه، فإنما هي بكسب أيديكم وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ، فستره على العبد حتى لا يحد عليه. ثم أخبر عن قصور ابن آدم وضعفه وأنه في قبضة القدرة، لا يعجز طلب ربه، ولا يمكنه الفرار منه والْجَوارِ جمع جارية، وهي السفينة.
وقرأ : الجواري بالياء نافع وعاصم وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة، ومنهم من أثبتها في الوصل ووقف