المحرر الوجيز، ج ٥، ص : ٤٥١
هذه الآية وما بعدها يظهر أنها من نمط المكي، وهذا أحد الأقوال التي ذكرناها قبل، وكَلَّا يجوز أن يكون ردّا لأقوال قريش، ويحتمل أن يكون استفتاحا بمنزلة «ألا»، وهذا قول أبي حاتم واختياره، و«الفجار» الكفار، وكتابهم يراد فيه الذي فيه تحصيل أمرهم وأفعالهم، ويحتمل عندي أن يكون المعنى وعدادهم وكتاب كونهم هو في سجين، أي هنالك كتبوا في الأزل، وقرأ أبو عمرو والأعرج وعيسى :
الفُجَّارِ بالإمالة والْأَبْرارِ [المطففين : ١٨] بالفتح قاله أبو حاتم، واختلف الناس في : سِجِّينٍ ما هو؟ فقال الجمهور : هو فعيل من السجن كسكير وشريب أي في موضع ساجن، فجاء بناء مبالغة، قال مجاهد : وذلك في صخرة تحت الأرض السابعة، وقال كعب حاكيا عن التوراة وأبيّ بن كعب : هو في شجرة سوداء هنالك، وقيل عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : في بر : هنالك وقيل تحت خد إبليس، وقال عطاء الخراساني : هي الأرض السفلى، وقاله البراء بن عازب عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال عكرمة :
سِجِّينٌ، عبارة عن الخسران والهوان، كما نقول : بلغ فلان الحضيض إذا صار في غاية الخمول، وقال قوم من اللغويين : سِجِّينٌ نونه بدل من لام هو بدل من «السجيل». وقوله تعالى : وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ تعظيم لأمر هذا السجين وتعجب منه، ويحتمل أن يكون تقرير استفهام، أي هذا مما لم يكن يعرفه قبل الوحي.
وقوله تعالى : كِتابٌ مَرْقُومٌ من قال بالقول الأول في سِجِّينٍ ف كِتابٌ مرتفع عنده على خبر إِنَّ، والظرف الذي هو : لَفِي سِجِّينٍ ملغى، ومن قال في سِجِّينٍ بالقول الثاني ف كِتابٌ مرتفع على خبر ابتداء مضمر، والتقدير هو كتاب مرقوم، ويكون هذا الكلام مفسر في السجين ما هو؟ ومَرْقُومٌ معناه : مكتوب، رقم لهم بشر، ثم أثبته تعالى لِلْمُكَذِّبِينَ بيوم الحساب والدين بالويل، وقوله : يَوْمَئِذٍ، إشارة إلى ما يتضمنه المعنى في قوله كِتابٌ مَرْقُومٌ، وذلك أنه يتضمن أنه يرتفع ليوم عرض وجزاء، وبهذا يتم الوعيد ويتجه معناه و«المتعدي» : الذي يتجاوز حدود الأشياء، و«الأثيم» : بناء مبالغة في آثم، وقرأ الجمهور :«تتلى»، بالتاء، وقرأ أبو حيوة :«يتلى»، بالياء من تحت، و«الأساطير» : جمع أسطورة وهي الحكايات التي سطرت قديما، وقيل هو جمع : أسطار، وأسطار : جمع سطر، ويروى أن هذه الآية نزلت بمكة في النضر بن الحارث بن كلدة وهو الذي كان يقول : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وكان هو قد كتب بالحيرة أحاديث رستم واسبنذباذ، وكان يحدث بها أهل مكة، ويقول أنا أحسن حديثا من محمد، فإنما يحدثكم ب أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وقوله تعالى : كَلَّا زجر ورد لقولهم : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، ثم أوجب أن ما كسبوا من الكفر والطغيان والعتو، قد رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ، أي غطى عليها وغلب فهم مع ذلك لا يبصرون رشدا ولا يخلص إلى قلوبهم خير، ويقال : رانت الخمر على عقل شاربها وران الغش على قلب المريض، وكذلك الموت، ومنه قول الشاعر :[الخفيف ] ثم لما رآه رانت به الخمر وإن لا يرينه باتقاء