المحرر الوجيز، ج ٥، ص : ٤٧٠
أمره تعالى بالتذكير، واختلف الناس في معنى قوله تعالى : إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى فقال الفراء والزهراوي معناه : وإن لم تنفع، فاقتصر على القسم الواحد لدلالته على الثاني، وقال بعض الحذاق : إنما قوله إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى، اعتراض بين الكلامين على جهة التوبيخ لقريش، أي إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى، في هؤلاء الطغاة العتاة، وهذا نحو قول الشاعر :[الوافر]
لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي
وهذا كله كما تقول لرجل قل لفلان وأعد له إن سمعك، إنما هو توبيخ للمشار إليه، ثم أخبر تعالى أنه سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى اللّه والدار الآخرة، وهم العلماء والمؤمنون كل بقدر ما وفق، ويتجنب الذكرى ونفعها من سبقت له الشقاوة، فكفر ووجب له صلي النار، وقال الحسن : النَّارَ الْكُبْرى نار الآخرة، والصغرى نار الدنيا، وقال بعض المفسرين : إن نار جميع الآخرة وإن كانت شديدة فهي تتفاضل، ففيها شيء أكبر من شيء، وقال الفراء : الْكُبْرى هي السفلى من أطباق النار، وقوله تعالى : ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى معناه : لا يَمُوتُ فِيها موتا مريحا، وَلا يَحْيى حياة هنية فهو لا محالة حي، وقد ورد في خبر : إن العصاة في النار موتى.
قال القاضي أبو محمد : وأراه على التشبيه لأنه كالسبات والركود والهمول فجعله موتا.
قوله عز وجل :
[سورة الأعلى (٨٧) : الآيات ١٤ الى ١٩]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨)
صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩)
أَفْلَحَ في هذه الآية معناه : فاز ببغيته، وتَزَكَّى معناه : طهر نفسه ونماها إلى الخير. قال ابن عباس : قال لا إله إلا اللّه فتطهر من الشرك، وقال الحسن : من كان عمله زاكيا، وقال أبو الأحوص : من رضخ من ماله وزكاه، وقوله وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ معناه : وحّده وصلى له الصلوات التي فرضت عليه، وتنفل أيضا بما أمكنه من صلاة وبرّ، وقال أبو سعيد الخدري وابن عمر وابن المسيب : هذه الآية في صبيحة يوم الفطر فتزكى، أدى زكاة الفطر، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ، هو ذكر اللّه في طريق المصلى إلى أن يخرج الإمام، والصلاة هي صلاة العيد، وقد روي هذا التفسير عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، وقال قتادة وكثير من المتأولين : تَزَكَّى : أدى زكاة ماله، و«صلى» معناه صلى الخمس، ثم أخبر تعالى الناس أنهم يؤثرون الْحَياةَ الدُّنْيا، فالكافر يؤثرها إيثار كفر يرى أن لا آخرة، والمؤمن يؤثرها إيثار معصية وغلبة نفس إلا من عصم اللّه، وقرأ أبو عمرو وحده «يؤثرون» بالياء، وقال : يعني الأشقين، وهي قراءة ابن مسعود والحسن وأبي رجاء والجحدري، وقرأ الباقون والناس :«تؤثرون» بالتاء على المخاطبة، وفي حرف أبي بن كعب «بل أنتم تؤثرون»، وسبب الإيثار حب العاجل والجهل ببقاء الآخرة، وقال عمر : ما في الدنيا في الآخرة إلا كنفخة أرنب. وقوله تعالى : إِنَّ هذا قال الضحاك : أراد القرآن، وروي أن القرآن انتسخ من الصُّحُفِ