المحرر الوجيز، ج ٥، ص : ٥٣
الضمير في : قالُوا لقريش، وذلك أنهم استبعدوا أولا أن يرسل اللّه بشرا، فلما تقرر أمر موسى وعيسى وإبراهيم ولم يكن لهم في ذلك مدفع، رجعوا يناقضون فيما يخض محمدا عليه السلام بعينه، فقالوا : لم كان محمد ولم يكن نزول الشرع عَلى رَجُلٍ من إحدى الفرقتين عَظِيمٍ، وقدر المبرد قولهم على رجل من رجلين من القريتين، والقريتان : مكة والطائف، ورجل مكة الذي أشاروا إليه : قال ابن عباس وقتادة هو : الوليد بن المغيرة المخزومي. وقال مجاهد هو : عتبة بن ربيعة. وقال قتادة : بلغنا أنه لم يبق فخذ من قريش إلا ادعاه. ورجل الطائف قال قتادة هو : عروة بن مسعود. وقال ابن عباس : حبيب بن عبد بن عمير. وقال مجاهد : كنانة بن عبد ياليل.
قال القاضي أبو محمد : وإنما قصدوا إلى من عظم ذكره بالسن والقدم، وإلا فرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان حينئذ أعظم من هؤلاء، لكن لما عظم أولئك قبل مدة النبي وفي صباه استمر ذلك لهم.
ثم وقف على جهة التوبيخ لهم بقوله : أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ المعنى على اختيارهم وإرادتهم تنقسم الفضائل والمكانة عند اللّه. والرحمة : اسم يعم جميع هذا. ثم أخبر تعالى خبرا جازما بأنه قاسم المعايش والدرجات في الدنيا ليسخر بعض الناس بعضا، المعنى : فإذا كان اهتمامنا بهم أن نقسم هذا الحقير الفاني، فأحرى أن نقسم الأهم الخطير.
وفي قوله تعالى : نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ تزهيد في السعايات، وعون على التوكل على اللّه تعالى، وللّه در القائل :[الرجز] لما أتى نحن قسمنا بينهم زال المرا وقرأ الجمهور :«معيشتهم». وقرأ ابن مسعود والأعمش :«معائشهم».
وقرأ جمهور الناس «سخريا» بضم السين. وقرأ أبو رجاء وابن محيصن :«سخريا» بكسر السين، وهما لغتان في معنى التسخير، ولا مدخل لمعنى الهزء في هذه الآية.
وقوله تعالى : وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ قال قتادة والسدي : يعني الجنة.
قال القاضي أبو محمد : لا شك أن الجنة هي الغاية، ورحمة اللّه في الدنيا بالهداية، والإيمان خير من كل مال، وهذا اللفظ تحقير للدنيا، ثم استمر القول في تحقيرها بقوله : وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ الآية، وذلك أن معنى الآية : أن اللّه تعالى أبقى على عبيده وأنعم بمراعاة بقاء الخير والإيمان وشاء حفظه على طائفة منهم بقية الدهر، ولولا كراهية أن يكون الناس كفارا كلهم وأهل حب في الدنيا وتجرد لها لوسع على الكفار غاية التوسعة ومكنهم من الدنيا، إذ حقارتهم عنده تقتضي ذلك، لأنها لا قدر لها ولا وزن لفنائها وذهاب رسومها، فقوله : أُمَّةً واحِدَةً معناه : في الكفر، قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدي، ومن


الصفحة التالية
Icon