في وسعهم وتحت أقدارهم، لم يتكلفوا هذه الأمور الخطيرة، ولم يركبوا تلك الفواقر المبيرة، ولم يكونوا تركوا السهل الدمث من القول إلى الحَزْنِ (١) الوعر من الفعلٍ، وهذا ما لا يفعله عاقل، ولا يختاره ذو لب، وقد كان قومه قريش خاصة موصوفين برزانة الأحلام، ووفارة العقول والألباب، وقد كان فيهم الخطباء المصاقع (٢) والشعراء المفلقون (٣)، وقد وصفهم الله تعالى في كتابه بالجدل والخصومه واللدد، فقال سبحانه: (ما ضربوه لك إلاَّ جدلاً بل هُمْ قومٌ خصمون (وقال سبحانه: (وتُنذِرَ بِه قوما لُداَّ (، فكيف كان يجوز -على قول العرب ومجرى العادة مع وقوع الحاجة ولزوم الضرورة -أن يغفلوه ولا ويهتبلوا الفرصة فيه، وأن يضربوا عنه صفحاً، ولا يحوزوا الفلاح والظفر فيه لولا عدم القدرة عليه والعجز المانع منه.
ومعلوم أن رجلا عاقلا لو عطش عطشاً شديدا، خاف منه الهلاك على نفسه، وبحضرته ماء معرض للشرب فلم يشربه حتى هلك عطشاً، لحكمنا أنه عاجز عن شربه غير قادر عليه،
وهذا بين واضح لا يُشكل على عاقل.
قلت: وهذا -من وجوه ما قيل فيه ـ أبينها دلالة وأيسرها مؤونة، وهو مقنع لمن تنازعه نفسه مطالعة كيفية وجه الإعجاز فيه) (٤).
_________
(١) وهو ما غلظ من الأرض. القاموس المحيط (ح ز ن)
(٢) المَصْقَعُ: البليغُ يتفنن في مذاهب القول. الوسيط (ص ق ع)
(٣) المُفْلِق: المبدع، لأن من معاني الفالق أي الخالق والمبدع كما في قوله تعالى (أن الله فالق الحب والنوى (انظر: لسان العرب (١٠/٣١٢).
(٤) ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرماني والخطابي وعبد القاهر الجرجاني (ص: ٢١)، وهي من رسالة الخطابي.