٣. ومثال آخر في قوله تعالى (وتبتّل إليه تبتيلا) القياس أن يقال تبتّل تبتّلاً أنما في الآية جاء بالفعل ولم يأت بمصدره وإنما جاء بمصدر فعل آخر ليجمع بين أمرين. (صيغة تفعّل تفيد التدرج مثل تجرّع الماء أي جرعة جرعة وتحسّر فيها التدرج والتكلف) ومثلها تجسّس وتحسّس وكسر وكسّر أي جعله كسرة كسرة وقطع وقطّع تفيد التكثير لأن صيغة فعّل تفيد التكثير. فهو الآن في قوله تعالى (وتبتّل إليه تبتيلا) جمع بين المعنيين التدرج والتكلف والمبالغة والتكثير ووضعهما وضعاً تربوياً عجيباً يبدأ بالتدرج ثم ينتهي بالتكثير فالتبتّل هو الإنقطاع إلى الله في العبادة وقد علّمنا تعالى أن نبدأ بالتدرج في العبادة شيئاً فشيئاً ثم ندخل في التكثير ولا ندخل في العبادة الكثيرة مباشرة لأن التدرج في العبادة يؤدي إلى الكثرة فيها فيما بعد وهذه هي الطريقة التربوية للعبادة تبدأ بالتدرج وتحمل نفسك على العبادة شيئاً فشيئاً ثم تنتهي بالتكثير والكثرة في العبادة. والتدرج والتكلف جاء بالصيغة الفعلية الدالة على الحدوث والتجدد (تبتّل) ثم جاء بالصيغة الإسمية الدالة على الثبوت (تبتيلا) فبدل أن يقول تبتّل إليه تبتّلاً وبتّل نفسك إليه تبتيلا وهذه صياغة فنية تربوية عجيبة وقد جمع في الآية عدة أمور بيانية في التعبير. والعرب قديماً كانوا يفهمون هذه البلاغة بالفطرة لكنهم عجزوا عن الإتيان بالصيغة التي جاء بها القرآن الكريم وهذا هو التحدي والإعجاز في القرآن.


الصفحة التالية
Icon