إن القرآن الكريم دقيق في وضع الألفاظ ورصفها بجنب بعض دقة عجيبة فقد تكون له خطوط عامة في التقديم والتأخير وقد تكون هناك مواطن تقتضي تقديم هذه اللفظة أو تلك وكذلك مرتعا فيه سياق الكلام والإتساق العام في التعبير على أكمل وجه وأبهى صورة. وسنوضح هذا القول المجمل ببيان شاف.
إن القرآن كما ذكرت يقدم الألفاظ ويؤخرها حسبما يقتضيه المقام فقد يكون سياق الكلام مثلاً متدرجاً حسب القدم والأولية في الوجود، فيرتب الكلمات على هذا الأساس فيبدأ بالأقدم ثم الذي يليه وهكذا وذلك نحو قوله تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦) الذاريات) فخلق الجن قبل خلق الإنس بدليل قوله تعالى (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (٢٧) الحجر) فذكر الجن أولاً ثم ذكر الإنس بعدهم.
** ونحو قوله تعالى (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ (٢٥٥) البقرة) لأن السِّنة وهي النعاس تسبق النوم فبدأ بالسنة ثم النوم.
** ومن ذلك تقديم عاد على ثمود قال تعالى (وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ (٣٨) العنكبوت) فإن عاداً أسبق من ثمود.
** وجعلوا من ذلك تقديم الليل على النهار والظلمات على النور قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣) الأنبياء) فقدم الليل لأنه أسبق من النهار وذلك لأنه قبل خلق الأجرام كانت الظلمة وقدم الشمس على القمر لأنها قبله في الوجود. وقال (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (٤٤) النور) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. ومثل تقديم الليل على النهار تقديم الظلمات على النور كما ذكرت. قال تعالى (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ (١) الأنعام) وذلك لأن الظلمة قبل النور لما مر في الليل.