تفسير الوسيط (الزحيلي)، ج ١، ص : ٥٩٥
أخبر اللّه عزّ وجلّ في هذه الآية الأولى : أنه لو أتى بجميع ما اقترحوه من إنزال الملائكة، وإحياء سلفهم حسبما كان من اقتراح بعضهم أن يحشر قصي بن كلاب وغيره، فيخبر بصدق محمد، أو يجمع كل شي ء يعقل أن يحشر عليهم، ما آمنوا إلا بالمشيئة واللطف الذي يخلقه اللّه، ويخترعه في نفس من شاء.
لو أننا نزّلنا إليهم الملائكة، فرأوهم بأعينهم مرة بعد أخرى، وسمعوا شهادتهم لك بالرسالة، ولو كلمهم الموتى إذ أحييناهم، وأخبروهم بصدق ما جاء به النّبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم كما طلبوا، وجمعنا كل شي ء من الآيات والدلائل معاينة ومواجهة، فيخبرونهم بصدق النّبي، لو حدث كل هذا، ما كان شأن هؤلاء القرشيين المكّيين أن يؤمنوا، وليس عندهم الاستعداد أن يصدّقوا لأنهم لا ينظرون في الآيات نظر تأمّل وهداية وعظة، وإنما ينظرون إليها نظر معاداة واستهزاء، إنهم لا يؤمنون إلا بمشيئة اللّه، على سبيل الاختيار، وليس الإيمان الاضطراري، ولكن أكثر هؤلاء المشركين يجهلون أن الإيمان إليهم والكفر بأيديهم، متى شاؤوا آمنوا، ومتى شاؤوا كفروا، وليس ذلك كما يظنّون، لا يؤمن أحد منهم إلا من هديته ووفقته للإيمان، ولا يكفر إلا من خذلته عن الرّشد فأضللته.
ومن أجل التّخفيف من اللّه على نبيّه ومواساته، أبان سبحانه أن سنّته في الخلق أن يكون للأنبياء عدوّ من الجنّ والإنس، لا ينفرد به نبيّنا، وإنما كان هذا أمرا عامّا امتحن به غيره من الأنبياء، ليبتلي اللّه أولي العزم منهم. وأعداء الأنبياء يلقي بعضهم إلى بعض القول المزيّن المزخرف الذي يخدع بعض السامعين، ويموّه عليهم الحقائق، ويغريهم بالمعاصي والأباطيل، وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ أي إن ذلك كله بقدر اللّه وقضائه وإرادته ومشيئته أن يكون لكل نبيّ عدوّ من الشياطين.
فدعهم أيها الرّسول النّبي وما يفترون أي يكذّبون، واتركهم يخوضون في إفكهم


الصفحة التالية
Icon