تفسير الوسيط (الزحيلي)، ج ٢، ص : ١٧٩١
به، ويمشون في الأسواق للتكسب والاتجار، ولا يغض ذلك من شأنهم ولا يمسّ أقدارهم، ولا يتنافى مع أحوالهم ومناصبهم، ولقد اختبرنا بعضكم ببعض، وبلونا بعضكم ببعض، لنعلم الطائع من العاصي، أي إن الله سبحانه أراد أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض في الجملة في جميع الناس، مؤمن وكافر، فالصحيح فتنة للمريض، والغني فتنة للفقير، والفقير الشاكر فتنة للغني، والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس الكفار في عصره، وكذلك العلماء وحكام العدل، إن هذا التقابل مدعاة للعبرة، لأن الأشياء تتميز بأضدادها، لذا قال الله تعالى : أَتَصْبِرُونَ أي هل تصبرون أيها المؤمنون أو لا؟ اصبروا على ما أراده الله لكم، وكان ربك أيها الرسول بصيرا بمن يصبر وبمن يجزع، وبمن يستقيم وبمن ينحرف ويضل.
قال مقاتل : إن الآية نزلت في أبي جهل بن هشام، والوليد بن المغيرة، والعاص ابن وائل وغيرهم من أشراف قريش حين رأوا أبا ذر، وعبد الله بن مسعود، وعمارا، وبلالا، وصهيبا، وسالما مولى أبي حذيفة، قالوا : أنسلم فنكون مثل هؤلاء؟! فأنزل الله تعالى يخاطب هؤلاء المؤمنين : أَتَصْبِرُونَ؟ أي على ما ترون من هذه الحال الشديدة والفقر، والجهد والإيذاء، كأنه تعالى جعل إمهال الكفار والتوسعة عليهم فتنة للمؤمنين.
ورتب المشركون على إنكار بشرية الرسل بديلا فقالوا : هلا أنزل علينا الملائكة، كما تنزل على الأنبياء، فنراهم عيانا، فيخبرونا بأن محمدا صادق في ادعائه النبوة، أو نرى ربنا جهارا علنا، فيخبرنا بأنه أرسله إلينا، ويأمرنا بتصديقه واتباعه. ولما تمنت كفار قريش رؤية ربهم، أخبر الله تعالى أنهم عظموا أنفسهم، وسألوا ما ليسوا له بأهل.
والله لقد تكبروا واستكبروا عن الحق، وتجاوزوا الحد في الظلم والكفر تجاوزا