تفسير الوسيط (الزحيلي)، ج ٣، ص : ٢٠٧٤
ذكر الله تعالى
ربط الله تعالى قلوب عباده بغرس أصول الإيمان والتقوى فيها، وعلّمهم بسبب تعرضهم للنسيان كيفية تجديد رابطتهم بالله تعالى، من طريق مداومة ذكر الله تعالى ذكرا كثيرا، من غير تقدير بحد معين، لتسهيل الأمر عليهم، وتعظيم الأجر فيه، قال ابن عباس رضي الله عنهما : لم يعذر أحد في ترك ذكر الله إلا من غلب على عقله، وقال : الكثير : ألا ينساه أبدا.
وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن حبان والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :«أكثروا ذكر الله حتى يقولوا : مجنون».
وفي ترطيب اللسان بذكر الله تعالى واستحضار القلب عظمة الله : إشعار بفائدة الذكر، وبضرورة الارتباط الوثيق بالله تعالى وخشيته، ليستقيم الإنسان على أمر الله، قال الله تعالى آمرا بالذكر، مبينا فائدته القصوى وثمرته عند الله عز وجل :
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤)
[الأحزاب : ٣٣/ ٤١- ٤٤].
الآية تبيان فضيلة الذّكر، وثواب الذاكرين. فيا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله، اذكروا الله بألسنتكم وقلوبكم ذكرا كثيرا، من غير تحديد وقت، ولا تقدير قدر، إنما المطلوب غلبة ذكر الله تعالى في أحوال الإنسان، وضموا إلى الذكر التسبيح في الصباح والمساء، والمراد : في كل الأوقات، التي تا : سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».
وخص الأمر بالذكر في المزدلفة عند المشعر الحرام، فقال الله تعالى : فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [البقرة : ٢/ ١٩٨] وفي أداء مناسك الحج في قوله تعالى : وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ [البقرة : ٢/ ٢٠٣] وبعد ذهاب الخوف من العدو : فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة : ٢/ ٢٣٩] وعند ذبح الأنعام : فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ [الحج : ٢٢/ ٣٦] وعند الصيد : فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ [المائدة : ٥/ ٤]. ووصف الله المؤمنين بالذاكرين في الأوقات كلها في قوله سبحانه : الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ [آل عمران : ٣/ ١٩١] وقوله تعالى : وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب : ٣٣/ ٣٥].
ثم أبان اللّه تعالى فضيلة الذّكر وسببه وثوابه بقوله : هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ أي إن اللّه تعالى الذي تذكرونه وتسبّحونه : هو الذي يرحمكم، وصلاة اللّه على عباده :
هي رحمته لهم، وبركته لديهم، ونشره إلينا الجميل، والملائكة تستغفر لكم، لأن صلاة الملائكة : الدعاء للمؤمنين، وذلك من أجل إرادة هدايتكم، وإخراجكم من ظلمات الضلال والجهل إلى نور الحق والهدى والإيمان، وكان اللّه وما يزال رحيما، تام الرحمة بالمؤمنين من عباده، في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا : فإن اللّه يهديهم إلى الحق الذي جهله غيرهم، ويبصّرهم الطريق الذي حاد عنه سواهم الى الكفر والابتداع الضالّ، وأما في الآخرة : فيؤمّنهم اللّه من الفزع الأكبر، ويظلّهم بمظلته الرحيمة، وتبشّرهم الملائكة بالفوز بالجنة والنجاة من النار، رأفة بهم، ومحبة لهم.