تفسير الوسيط (الزحيلي)، ج ٣، ص : ٢٢٥٨
هذه الآيات تبين مصدر إنزال القرآن : وهو أنه من عند اللّه، وتناقش الكفار الذين جادلوا بالباطل، لدحض الحق، فاستحقوا التهديد بالعذاب في النار.
حم : حروف مقطعة للاستفتاح والتنبيه لخطر ما بعدها، وللتحدي بالإتيان بمثل آي القرآن في الفصاحة والبلاغة، والإحكام في النظم والمعنى، لأنه لم يخرج تركيبه عن الحروف العربية، مثل هذين الحرفين : حم، ثم إن تنزيل القرآن الكريم على قلب النبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم من اللّه الغالب القوي القاهر، الواسع العلم بخلقه وبكل أقوالهم وأفعالهم، فأنت أيها النبي صادق في قولك : إنك رسول اللّه، وإن القرآن من عند اللّه. واللّه منزّل القرآن : هو غافر الذنب الصادر من الإنسان، وقابل التوبة الخالصة منه، وشديد العقاب لمن عاداه، وذو الفضل والسعة والنعمة والمن بكل نعمة، ينعم بمحض إحسانه، وهو الإله الواحد الذي لا شريك له ولا نظير، وإليه مرجع الخلائق كلهم. هذه ست صفات لله عز وجل تضمنت وعيدا بين وعدين، وعيدا بالعقاب، ووعدا بمغفرة الذنب وبالإمداد بالنعم، وهكذا رحمة اللّه تعالى تغلب غضبه. قال عمر رضي اللّه عنه :«لن يغلب عسر يسرين» مشيرا لقوله تعالى : فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) [الشرح : ٩٤/ ٥- ٦].
ولا يخاصم في دفع آيات اللّه وتكذيبها إلا الذين كفروا بالله، فهم يجادلون بالباطل، أي جدالا باطلا، فلا تغتر أيها النبي أو تظن أن وراء تقلبهم وإمهالهم خيرا لهم، ولا يغتروا بإملاء اللّه تعالى لهم، أي ولا تنخدع بتصرفهم وتمتعهم بالمساكن والمزارع والأسفار، وتنقلهم في بلاد اللّه للتجارة وتحقيق الأرباح، وجمع الأموال، فإنهم معاقبون عما قليل، وعاقبتهم في النهاية : الدمار والهلاك.
ثم ذكر اللّه تعالى أن لهم مثلا بمن تقدمهم من الأمم السابقة، فكما حل العقاب بأولئك، كذلك ينزل بهؤلاء، فلقد كذبت قبل جماعة قريش قوم نوح والأحزاب