تفسير الوسيط (الزحيلي)، ج ٣، ص : ٢٥٨١
و دليل آخر : أخبروني عما تحرثون من الأرض، وتطرحون فيه البذر، هل أنتم أوجدتموه زرعا ونباتا كاملا فيه السنبل والحب، بل نحن الذين ننبته في الأرض ونصيّره زرعا تامّا؟ بل أنت يا ربّ.
لو أردنا أن نجعل هذا الزرع يابسا أو هشيما متكسّرا لفعلنا، فصرتم تتعجبون من سوء حاله وما نزل به، قائلين : إننا لخاسرون مغرمون. والمغرم : الذي ذهب ماله بغير عوض، أو إننا لهالكون هلاك أرزاقنا.
وبعد المأكول يكون المشروب، أخبروني أيها الناس عن الماء العذب الذي تشربونه لإطفاء العطش، أأنتم أنزلتموه من السحاب أم نحن المنزلون بقدرتنا دون غيرنا، فكيف لا تصدقون بالبعث بعد هذا الإيجاد؟! لو أردنا أن نجعل هذا الماء ملحا لا يصلح للشرب ولا للزرع، لفعلنا، فهلا تشكرون نعمة اللّه الذي خلق لكم هذا الماء عذبا فراتا زلالا، تشربون منه، وتنتفعون به؟! ثم ذكر النار أداة الطّهي والإنضاج، فهل رأيتم النار التي تستخرجونها بالقدح من الزناد، أأنتم أنشأتم شجرتها التي تقدحون منها النار، أم نحن المنشئون لها بقدرتنا دونكم؟
نحن جعلناه هذه النار تذكرة لكم بحرّ نار جهنم الكبرى، ليتّعظ بها المؤمن، وينتفع بها المقوون، أي المسافرون الضاربون في البوادي، والأراضي القفر. فنزّه اللّه تعالى القادر على خلق هذه الأشياء أيها النّبي وكل مخاطب بالقرآن، حيث أوجد هذه الأشياء المختلفة المتضادة، من إيجاد عنصر الرطوبة بالماء، وعنصر الحرارة بالنار، ومادة الملوحة في البحار والمحيطات.
أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال :«نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم، فقالوا : يا رسول اللّه، إن كانت لكافية؟ فقال : إنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا».