تفسير الوسيط (الزحيلي)، ج ٣، ص : ٢٧٤٤
برؤوس أصابعهم، لئلا يسمعوا ما أدعوهم إليه، وغطّوا بثيابهم وجوههم لئلا يروني، ولئلا يسمعوا كلامي، واستمروا على الكفر والشّرك ولازموه، وتكبّروا عن قول الحق تكبّرا شديدا، أي استنكفوا عن اتّباع الحق والانقياد له.
ثم إنني نوّعت لهم أساليب الدعوة، فدعوتهم إلى الإيمان والطاعة جهرة بين الناس، أي مجاهرا لهم بها، ثم جمعت في الدعوة بين الإعلان بها والإسرار، أي إن نوحا عليه السّلام سلك في دعوته مراتب ثلاثا : بدأ بالمناصحة في السرّ ليلا ونهارا، ففرّوا منه، ثم جهر بالدعوة، لأن النصح العلني تقريع، ثم جمع بين الأمرين :
الإسرار والإعلان. وتكرار صفة الدعوة بيان وتأكيد، يدلّ على غاية الجدّ.
وقلت لهؤلاء القوم : اطلبوا المغفرة من ربّكم لذنوبكم السابقة، بإخلاص النّية، وتوبوا إلى اللّه من الكفر والمعاصي، إن ربّكم الذي خلقكم وربّاكم كثير المغفرة للمذنبين.
ثم وعدهم على التوبة من الكفر والعصيان بخمسة أشياء : إرسال المطر المتتابع، الكثير الغزارة ليكثر الخير والخصب، والإمداد بالأموال الكثيرة، وإكثار الذرّية والأولاد بسبب الأمن والرفاه، ومنحهم بساتين نضرة عامرة بالأشجار والثمار، وجعل الأنهار جارية بالماء العذب، ليكثر الزرع والثمر والغلة. والوقار : العظمة والسلطان. فكأن الكلام وعيد وتخويف.
ما لكم لا تخافون من عظمة اللّه وجلاله، فتوحّدوه وتطيعوه، في حين أنه هو الذي خلقكم على أطوار أو مراحل مختلفة، وهو كما قال ابن عباس إشارة إلى التدرّج الذي للإنسان في بطن أمّه من النطفة والعلقة والمضغة، ثم العظام فاللحم، ثم تمام الخلق، وإنشاؤكم خلقا آخر، تمرّون في دور الطفولة، ثم التمييز، ثم البلوغ والمراهقة، ثم الشباب، ثم الكهولة، ثم الشيخوخة، فكيف تقصرون في توقير من خلقكم على هذه الأطوار البديعة؟


الصفحة التالية
Icon