فبين أنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ما ردّوا إلى أسفل السافلين. وقال عكرمة: من قرأ القرآن لم يصر إلى هذه الحالة. وقال في قوله تعالى: ﴿إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾: هم الذين قرؤوا القرآن. وقال ابن عباس: قوله: ﴿ثم رددناه أسفل سافلين﴾ يريد الكافرين ثم استثنى المؤمنين فقال: ﴿إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ وهذا يؤيد ما مرّ. ﴿إن الله عليم﴾ بمقادير أعمارهم ﴿قدير﴾ يميت الشاب النشيط، ويبقي الهرم الفاني، وفي ذلك تنبيه على أن تفاوت آجال الناس ليس إلا بتقدير قادر حكيم، ركب أبنيتهم وعدّل أمزجتهم على قدر معلوم، ولو كان مقتضى الطباع كما يقول الطبائعيون لم يبلغ التفاوت هذا المبلغ. ولما ذكر تعالى المفاوتة في الأعمار المنادية بإبطال الطبائع الموجبة للمسابقة إلى الاعتبار لأولي الأبصار للخوف كل لحظة من مصيبة الموت أتبعها بالمفاوتة في الأرزاق فقال:
﴿والله﴾ أي: الذي له الأمر كله ﴿فضل بعضكم﴾ أيها الناس ﴿على بعض في الرزق﴾ فمنكم غني، ومنكم فقير، ومنكم مالك، ومنكم مملوك، كل ذلك بتقدير العزيز الحكيم، فيجعل الضعيف العاجز الجاهل أغنى من القوي المحتال العالم فنرى أكيس الناس وأكثرهم عقلاً يفني عمره في طلب القليل من الدنيا ولا يتيسر له ذلك، ونرى أجلف الخلق وأقلهم عقلاً وفهماً تفتح له أبواب الدنيا فكل شيء خطر بباله، أو دار في خياله، فإنه يحصل له بسهولة ولو كان السبب في ذلك هو جهل الإنسان وعقله لوجب أن يكون الأعقل أفضل في هذه الأحوال فلما رأينا أنّ الأعقل أقل نصيباً وأنّ الأجهل الأخس أوفر نصيباً علمنا أنّ ذلك بسبب قسمة القسام كما قال تعالى: ﴿أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا﴾ (الزخرف، ٣٢)
فاتقوا الله وأجملوا في طلب الرزق وأقبلوا في جمع قلوبكم على ما ينفعكم من الاستبصار وأنشد سفيان بن عيينة يقول:
*كم من قويّ قويّ في تقلبه | مهذب الرأي عنه الرزق منحرف |